قطعة من عبق التاريخ، شهد على أزمنة وتحولات، كان جزءا لا يتجزأ من أحداث وتطورات، مر بالعديد من التغيرات بقدر ما مر عليه من بشر، لينتهي به الحال إلى كيان مسكين خاضع على شاطيء النيل ينتظر اهتمامًا من مسؤول، إنه كوبري دمياط القديم. كتبت: إلهام الجمال يُدهشك حينما تمر به، فالزائر للمدينة الساحلية الصغيرة، يستوقفه هذا الكيان المهمل ليسأل عن هوية تلك القطعة المعدنية العتيقة، التي تنام في حضن النيل بزاوية مائلة، لم نعتاد عليها من قبل، وتتوالى الأسئلة. يسألك الناظر إليه.. هو دا كان مشروع كوبري وراح؟ ولا دا كوبري مسروق نصفه؟، ليستفهم في سُخرية، مين اللي سرق الكوبري؟ فتأتيك الإجابة على الفور من أي شخص يمر بجوارك ويُشاهد الدهشة في عينيك، إنه كوبري دمياط القديم، الذي يُعد جزءا من تاريخ هذه المدينة، ويستفيض في حماس، ده أقدم كوبري في العالم، وإذا لاحظ على وجهك استنكارًا، بادرك بجملة تالية، ده عمره من عمر برج إيفل، بص المسامير دي هي نفس المسامير اللي في برج إيفل بتاع فرنسا، ركز بس. جملٌ لا تأخذها على محمل الجد، وتعتبرها، فشر دمايطة، ولو تدبرت لحظة ستكتشف أنها حقيقة فعلية، فهو أقدم كوبري خُصص لعبور القطارات في العالم أجمع، وصُمم بنفس طريقة برج إيفل. بعدما تكتشف الحقيقة.. ماذا جرى لهذا الكوبري؟ وما سر تحوله إلى قطعة حديدية مُهملة. يؤكد أحد أبناء دمياط المثقفين، ويُدعى الدكتور خالد شبارة، أن الكوبري قطعة فنية تاريخية عظيمة، يندر تكرارها، لذلك وبعد تعرضه للإهمال لسنوات طويلة، وسرقة بعض أجزاءه من قبل تجار الخردة، قرر محافظ دمياط في عام 2006 نقله من مكانه القديم ليستقر به أمام مكتبة دمياط العامة، ويُحوله إلى مركز ثقافي فني، حقق نقلة ثقافية كبرى في المدينة الصغيرة، وفتح نوافذ عديدة أمام أبناءها، لكن وللأسف خلال ثورة يناير تعرض للنهب والسرقة والتحطيم، وتحول مع الأيام إلى مجرد قطعة حديدية تستقر على النيل تحوي خفافيش الليل وطيور الظلام. وتسمع أراء بعض الدمايطة يُصيبك الظمأ إلى معرفة تاريخ تلك القطعة الأثرية، فحماس أحدهم ويُدعى خالد، للبحث عن تاريخ ذلك الكوبري ومعرفة تفاصيل أكثر عنه، يكشف لي عما يستحق التوقف والتدبر. فالكوبري تأسس في عام 1890 في حي إمبابة ليكون أول كوبري في العالم مخصص لمرور القطارات، نفذته شركة فرنسية تُسمى، ميزون ديديه، بتكلفة 40 ألف جنيه، وقد استفادت تلك الشركة كثيرًا من تصميم برج إيفل الذي أسس في 1889 أي قبل الكوبري بعام واحد. الكوبري ووفقاً لما جاء في كتاب "ملحق تقويم النيل" للكاتب أمين باشا سالم؛ الذي وضعه في عام 1939 مؤرخاً لجسور مصر وقناطرها وخزاناتها؛ كان مكون من 6 قطع بطول 495 متر، وخصص لسنوات طويلة لعبور القطارات التي تربط بين الوجه البحري والوجه القبلي في حي بولاق بمنطقة إمبابة. ومع مرور السنوات وتحديث القطارات تم الاستغناء عن الكوبري، ونقلت 4 قطع منه لمدينة دمياط في عام 1927 ليخصص الكوبري لعبور المارة والسيارات فقط. صدفة انقذت التاريخ من الانصهار مع مرور الزمن، تهالك الكوبري، وتساقطت أجزاء منه، وأصبح مطمعًا لتجار الخردة، الذين بدأوا في فك أجزاءه وبيعها لتجار الحديد، الذين قرروا صهرها وإعادة تشكيلها، وكان من المحتمل أن يندثر الكوبري وينتهي مع الوقت وتغافل المسؤولين، لولا الصدفة التي جعلت الدكتور فتحي البرادعي محافظ دمياط في عام 2006 يُشاهد بنفسه أحد الأشخاص وهو يقوم بفك قطع منه لبيعها، وعندما سأله المحافظ قال إنه اشتراه ب 70 ألف جنيه فقط من الشركة التي تتولى تنفيذ الكوبري الجديد، والذي اشترته بدورها من هيئة الطرق والكباري، ليُصدر المحافظ قرارًا بمنع أية أعمال فك أو تقطيع للكوبري، واعتباره أثرًا تاريخيًا يجب المحافظة عليه، وجاء هذا في قرار رسمي حمل رقم 5 لسنة 2007، وأمر بصيانة الكوبري وإعادته لحالته القديمة والتخطيط لنقله في مكان جديد يبعد 2 كيلو متر عن مقره القديم، ليستقر أمام مكتبة دمياط العامة، ويتحول إلى ملحق لها. لم يحسب للدكتور فتحي البردعي ترميم الكوبري ونقله من مكانه ومحاولة الاستفادة منه فحسب، بل يُحسب له أيضًا إصراره على نقل الكوبري دون تفكيكه محافظة على قيمته وتصميمه التاريخي، فنُقل سليمًا عائمًا على سطح النيل، وتولت هذه المهمة شركة المقاولون العرب برئاسة المهندس إبراهيم محلب، رئيسها في ذلك الوقت، ليتكلف مشروع ترميم الكوبري ونقله 5 ملايين و600 ألف جنيه، بما يعادل مليون دولار وقتها، وهي منحة من هيئة التعاون الدولي. كان كوبري وراح يمتلك محافظ دمياط في تلك الفترة نظره بعيده، جعلته يُخطط لمشروع متكامل، تحويل الكوبري بعد ترميمه ونقله لمركز ثقافي متفرد، يفتح نوافذ ثقافية عديدة لأبناء المدينة البعيدة، ليُطلوا منها على عوالم مختلفة، فلقد تحول الكوبري الحديدي القديم إلى مركز ثقافي على أحدث طراز يشمل ثلاث قاعات مزوده بأحدث أجهزة الاضاءة والصوت والعرض، خصصت القاعة الأولى لعرض الأعمال الفنية المختلفة، والثانية للندوات ومزوده بشاشات عرض كبيرة وكاميرات تصوير وأجهزة صوت حديثة، أما الثالثة فكانت خاصة بالاجتماعات. وكانت القاعات الثلاث تفتح على ممرين جانبيين استُخدما كتراسين يُطلان على النيل، كما تم تأسيس مرسى لربط الكوبري بالشارع لتسهيل التعامل مع الناس، وحرص القائمون على هذا المشروع وقتها أن يحولوه إلى متحف مفتوح يعكس لأهل المدينة وزوّارها قيمة هذا التراث العريق الذي كاد يضيع بفعل الإهمال والجهل. فاحتفظ المشروع بجميع عناصر الحركة اليدوية، المُخصصة لفتح الكوبري والمتمثلة في التروس الناقلة لحركة الصنية الدائرية التي تشمل 28 بكرة على شكل مخروط ناقص ويتحرك عليها الكوبري بدقة ومتانة عالية، وكذلك المصدات والفرامل. وجمعت الهيئة المُشرفة على الكوبري، الرسومات الأصلية لتصميم الكوبري باعتبارها وثائق تاريخية لعرضها في الموقع الجديد للكوبري وكذلك النوتة الحسابية للتصميم بخط يد المهندس المصمم، وأيضًا دراسة الموقع والبدائل المقترحة، واعتماده من محافظ دمياط حسين كامل نصحي، في مارس 1926، بالتوقيع على الموقع النهائي لمحور الكوبري على نيل دمياط. كيف تحطمت أنشودة المحافظ؟ ازدهرت الحركة الثقافية في دمياط قرابة أربعة أعوام فقط، بسبب "الكوبري القديم" لكنها سرعان ما مرت كالحلم، لنستيقظ منه على كابوس مؤلم، هكذا تحدث المهندس أحمد نزهة، أحد أبناء دمياط عن المركز الثقافي الذي ضاع. وتحطم المركز الثقافي وما احتواه الكوبري، خلال أحداث ثورة يناير، وسُرقت كل محتوياته من أجهزة حديثة، وقطع فنية، حتى السجاد والمقاعد. وواصل أحمد بألم قائلًا، للأسف فشلنا في حمياته، فتم تحطيم نوافذه وواجهاته الزجاجية الملونه، وتحول المركز الذي كان يعج بالحياة، ويفيض بالفن، إلى مجرد هيكل حديدي ميت بلا حياة. وأضاف المهندس، بعد أن كان بابًا دخلنا منه لعالم الأحلام، وتعرفنا من خلاله على مختلف الفنون وأروعها، أصبح مليء بالصمت، لا يُمر به أهل دمياط ويتحسرون على ما ضاع، فنحن لم نخسر مليون دولار فقط تكلفهم المشروع، ولكننا خسرنا حياة كانت ستُشكل عقول أبناءنا، كما ساهمت في تشكيل عقولنا. انتهى كلام أحمد، لكن لم ينته حلمه وحلم خالد وكل أبناء دمياط، آملًا في استعادة الكوبري لجماله، والاستفاده منه وإعادته كمركز ثقافي فني يُضفي جمالًا على حياة المدينة الهادئة، المكان قطعة أثرية وفنية عتيقة تستحق الانتباه ونحن نبني مصرنا الجديدة، فهل من مجيب؟.