هل تذكرون حكاية «الفارس الأخضر» الذى كان يساند الثوار فى ميدان التحرير؟ لقد أكد البعض وجوده، وانتشرت لقطة فيديو سجلتها إحدى الكاميرات للفارس على ظهر حصان غير مرئى يشق صفوف الثوار قرب المتحف المصرى، وسعى بعض الإسلاميين للإيحاء بأن الملائكة كانت تدعم ثورة 25 يناير، ونوقش المشهد فى فضائيات أجنبية كثيرة للبحث عن تفسير علمى، لكن القصة الخيالية لم تصمد كثيرًا أمام زحام الأحداث، خصوصًا بعد انحراف الثورة وهزيمتها رغمًا عن الفارس الأخضر! ما فعلته فضائيات العالم عام 2010، أنجزه طه حسين منذ 70 عامًا فى دراسته العقلانية لظروف الفتنة الكبرى، حيث أنكر وجود شخصية عبد الله بن سبأ، واعتبرها مجرد اختراع ذهنى لا يستند إلى دليل، وكان هذه الإنكار أشبه بزلزال يهدّد البناء الذى قام عليه التفسير الشائع للفتنة باعتبارها مؤامرة يهودية ، كما يشكّك فى الروايات التى استقر عليها أهل السنة، ولذلك قوبلت اجتهاداته بحملة هجومية عنيفة، وكتب الباحث الإسلامى المعروف محمود شاكر: إن طه حسين بنفيه خبره ابن سبأ إنما يشتط ويركب مركبًا لا يليق بمثله. وتصاعدت الخلافات بين فريقين، أحدهما يؤيّد طه حسين والآخر يهاجمه بعنف، ويكاد يقترب من تكفيره، وتطرفت الآراء فى تناول القضية حتى خرج الدكتور علِى الوردى باستنتاج ثالث أربك الجميع، فقد سعى إلى إثبات أن شخصية ابن سبأ كانت مجرد قناع للصحابى الجليل عمار بن ياسر، وعلِى الوردى لمن لا يعرفه عالم اجتماع عراقى كبير، معتدل الفكر ومتأثر بمنهج ابن خلدون، ومن أبرز مؤلفاته فى علم الاجتماع والتاريخ وعاظ السلاطين ، و مهزلة العقل البشرى ، و منطق ابن خلدون ، وفى دراسته عن هذه القضية استدل الوردى بعدد من الاستشهادات والتطابقات بين الشخصيتين، منها أن ابن سبأ كان يكنى ب ابن السوداء ومثله فى ذلك عمار بن ياسر، وأنهما من أب يمانى، ويصح أن يكنى بلقب ابن سبأ ، ومن الثابت أن عمار كان شديد الحب لعلِى بن أبى طالب، يدعو له ويحرض الناس على بيعته فى كل مكان وكل وقت، كما أنه سافر فى أيام عثمان إلى مصر وأخذ يُحرّض الناس هناك على عثمان، فضج الوالى منه وهمَّ بالبطش به، وفى أكثر من موضع فى كتب التاريخ تتشابه المقالات المنسوبة إلى الشخصيتين، وجوهرها أن عثمان أخذ الخلافة بغير حق وأن صاحبها الشرعى هو علِى بن أبى طالب، وتتشابه أيضًا مواقف وعلاقات نسبت إلى الاثنين عن دورهما فى حرب الجمل، وعلاقتهما مع أبى ذر الغفارى. ويستخلص الوردى من ذلك أن ابن سبأ لم يكن سوى عمار بن ياسر، فقد كانت قريش تعتبر عمارًا رأس الثورة على عثمان، ولكنها لم تشأ فى أول الأمر أن تصرح باسمه، فرمزت عنه ب ابن سبأ أو ابن السوداء ، وتناقل الرواة هذا الرمز مع الزمن، ودخلت عليه تمويهات غريبة اخترعها أصحاب الأغراض، والغارقون فى الصراع على السلطة. وبعد الوردى ظهرت دراسات أخرى على هذا النهج، منها دراسة مثيرة للجدل قدّمها باحث عراقى آخر هو الدكتور كامل مصطفى الشيبى، وتناثرت الحقيقة وتباعدت الآراء، وزاد الخلط، فقال باحثون آخرون إن عبد الله بن سبأ هو نفسه عبد الله بن سبأ بن وهب الهمدانى كما عند البلاذرى، و عبد الله بن سبأ بن وهب الراسبى كما عند الأشعرى القمى، وقد لُقّب أيضًا ب ابن السوداء ، وقد تم تفنيد هذا الخلط بسهولة، لأن شخصية ابن سبأ غامضة المنشأ والنسب، فى حين تبدو شخصية الراسبى واضحة المعالم، فهو رأس الخوارج الذين خرجوا على الإمام علِى، كرم الله وجهه، أما الخلط بين ابن سبأ وعمار بن ياسر فقد ظل محلًّا للخلاف لارتباط شخصية أبى اليقظان بمسيرة طويلة من الثورة الدائمة، جعلت منه رمزًا للتمرد المعلن على عثمان بن عفان والتشيُّع الصريح لآل البيت، حتى إنه حارب فى صف الإمام علِى وهو فى الرابعة والتسعين من عمره، واستشهد فى موقعة صفين، بعد مسيرة طويلة من الإيمان والجهاد. والفتنة مستمرة..