فى بلدى ثورة.. ورغم عملى الصحفى ونشاطى البحثى اللذين يمليان علىّ أن أكون ناقلا ومحللا محايدا للحقيقة، فقد كنت جزءا من هذه الثورة، آمنت بها لأنها تدعو إلى تداول السلطة واحترام حقوق الإنسان والمساواة بين المواطنين، وشاركت فيها لأنها تؤسس لوطن يضارع الأمم المتقدمة، ودافعت عنها لأن أعداءها هم دعاة الرجعية والفساد والاستبداد.. الانحياز لهذه الثورة هو فى نظرى قمة الحياد، ولن أعتبره أبدا خروجا عن التزامى الصارم بقواعد العمل الصحفى ومعايير البحث العملى.. الخيانة الحقيقية هى منح الظالم والمظلوم نفس المعاملة، إذا كان الحق الفاصل بينهما ساطعا مثل الشمس. عندما غادرت الشرق الأوسط إلى بريطانيا عام 2006، كانت بشائر هذه الثورة قد لاحت.. كان الرئيس حسنى مبارك قد فاز فى انتخابات مزورة بولاية خامسة، وكان نجله قد وضع يده على كل مفاتيح صناعة القرار من خلال ما سماه لجنة السياسات فى الحزب الحاكم، وكانت المسافة بين الأغنياء والفقراء قد اتسعت بشكل مذهل.. وعلى المستوى الشخصى كنت قد تعافيت للتو من صدمة احتلال العراق ووفاة كثير من أصدقائى الصحفيين هناك، وبدأت أفكر، ماذا علىّ أن أفعل؟ حينها أجابنى القدر بمنحة ماجستير قدمتها لى وزارة الخارجية البريطانية، جاءت فى أسبوع واحد مع عرض للعمل بهيئة الإذاعة البريطانية (بى بى سى).. العلم والخبرة إذن هما بوابة الخروج من هذه الأزمة. كان لانتزاع نفسى من مصر فى هذا التوقيت ثمن كبير، لكنى فعلت.. هناك من اتهمنى بالهروب، وهناك من وصفنى بالأنانية، لكننى كنت أتخطى كل ذلك لأنى أنظر إلى أمل بعيد، وأُمنّى نفسى بأنى سأشارك فى اكتشافه.. عاهدت نفسى على أن أعود لبلادى بدرجة علمية فى مجال هى فى أمسّ الاحتياج إليه، خصوصا فى ظل عدم التزام وسائل إعلامها التقليدى بميثاق أخلاقى، ومن ثم فقدانها ثقة الجمهور، وبزوغ صحافة المواطن، التى تحولت فى النهاية إلى نواة للثورة.. لكنها تظل رغم كل ذلك نشاطا نخبويا، لم تظهر آثاره بعد فى مجالات تنمية المجتمعات العشوائية ومحو الأمية فى المناطق الريفية، والارتقاء بالوعى السياسى والاجتماعى، ومكافحة التمييز على أساس الجنس والدين والعرق.. كل هذه أمراض مستفحلة فى بلادى، وقد آمنت بأن الإعلام الجديد قادر على علاجها، إذا تمكن جميع المواطنين من أدواته. مئة وثمانون قناة تليفزيونية تقريبا تبث برامجها اليوم من مصر، وتنفق على ذلك عشرات المليارات من الدولارات سنويا، ولم يستفد من هذه الأموال سوى ملاك وموظفى هذه القنوات، بينما فئات عريضة من الجمهور تشتكى من إفساد بعض وسائل الإعلام للثورة، وتضليلها للوعى، وتسترها على الفساد، وتواطئها مع رموز النظام السابق.. فى نفس الوقت تغرق كليات الإعلام الحكومية فى مشكلات بيروقراطية تمنعها من مواكبة الموجات الجديدة فى الإعلام، وتطوير قدرات طلابها، سواء فى فهم أبعاد وإمكانات هذه الموجات، أو فى تبسيطها للمواطنين، بحيث تتسع رقعة تأثير هذا النمط الجديد والفريد من الإعلام، ليعوض القصور فى دور الإعلام التقليدى، خصوصا فى مرحلة إعادة بناء مؤسسات الدولة، التى تحتاج إلى إنعاش وعى المواطنين بطريقة الصدمات الكهربائية، للحصول على أسرع نتيجة فى أقصر وقت ممكن. هذه هى القاعدة التى أنطلق منها فى هذه الرسالة، لتحقيق أهداف ثلاثة: أولا فهم الكيفية التى تشكلت بها بذرة الثورة من خلال وسائل التواصل الاجتماعى، وعلى وجه التحديد باستخدام أداة الفيديو، وثانيا تقنين هذه الظاهرة فى ضوء آليات الإعلام الجديد وصحافة المواطن، وثالثا اقتراح أوجه الاستفادة من هذه الظاهرة، خصوصا فى مجال الفيلم الوثائقى، الذى يرثه الهواة ومستخدمو الإنترنت اليوم، بعد أن كان حكرا على صُناعه التقليديين. إن هذه الرسالة هى فى الواقع حلم كبير يتحقق فى موعده، واليوم، وأنا أطوى الصفحة الأخيرة فى هذا المجلد الضخم، أتذكر كل من دفعنى، ولو خطوة صغيرة إلى الأمام، كى أقترب من هذه اللحظة.. أتذكر أولا النصائح القيّمة التى قدمها لى البروفيسور جون إليس المشرف على رسالتى طيلة السنوات الماضية، التى لولاها لما كنت أشعر بالفخر اليوم بهذا الإسهام العلمى للمكتبة العالمية، وأتذكر بالتأكيد الصديقة العزيزة رضوى خليل الدبلوماسية المحترمة فى وزارة الخارجية، التى كانت أول من نبهنى لمنحة الماجستير عام 2005، وشجعتنى حتى فزت بها وبدأت الطريق، وأتذكر فيكتوريا مابلبك المشرفة المساعدة على الدكتوراه، والمشرفة على رسالتى للماجستير فى جامعة رويال هولواى، التى ساعدتنى كثيرا حتى حصلت فيه على تقدير امتياز مع مرتبة الشرف عام 2007، مما أهلنى بعد ذلك لمنحة جزئية للحصول على الدكتوراه من نفس الجامعة، كما أتذكر ماثيو إلترنجهام المشرف السابق على فريق إعلام المواطن فى «بى بى سى» العالمية، الذى استقبلنى عدة مرات، وساعدنى على فهم آلية العمل بالفريق، وأمدنى بكل المعلومات التى احتجت إليها، ولا أنسى أساتذة ومدرسى جامعة رويال هولواى الذين أشرفوا على تدريبى فى مجالات البحث الإثنوجرافى والإنثروبولوجى، والملكية الفكرية، ومناهج البحث العلمى، بالإضافة إلى قسم التدريب فى «بى بى سى» العالمية الذى ساعدنى كثيرا من خلال دوراته الممتازة فى مجال الإعلام الجديد. علىّ أن أعترف فى النهاية أنه لولا أمى وشقيقتى لما تحقق هذا الإنجاز.. أمى كانت وستبقى دائما أملا وسندا وهدفا.. دعواتها لى عبر الهاتف كانت تعبر الأميال من مصر إلى بريطانيا، كى تستقر فى قلبى، وتشحننى بالقوة والإرادة والإصرار.. إليها وإلى مصر أهدى هذه الرسالة.