من السذاجة أن تفعلى نفس الخطوات، كما سابقا، ثم تنتظرى نتيجة مختلفة. ومن الغباء أن ترى خصمك يخطو ناحيتك ثم تقنعى نفسك أنه يستعد لترك الساحة. لا يحتاج الأمر إلى محلل سياسى خبير لكى يدرك أن الشخص الذى تقف خلفه المؤسسة القديمة هو الفريق أحمد شفيق. لقد بدأ هذا الإعداد والتجهيز من فترة طويلة. واستمر بالأزمات المفتعلة: الأزمة الأمنية، أزمة البوتاجاز، أزمة البنزين. فى تناسق وتناغم لا يدع مجالا لاحتمال الصدفة. الوجوه الإعلامية التى حاربت الثورة أيام مبارك صارت أكثر تبجحا فى الإعلان عن نفسها. التليفزيون المملوك للمؤسسة العسكرية يذيع فقرات عن تاريخ شفيق وتضحيته من أجل الوطن كعسكرى. القنوات الخاصة -حتى ما كان يساند الثورة منها- صارت لديها قوائم سوداء غير معلنة بالشخصيات الممنوعة من الظهور. قائمة سوداء تشمل بالذات أكثر الناس معاداة لشفيق كعبد الحليم قنديل وعلاء الأسوانى وغيرهما. ثم إن الأجهزة التى «راضاها» الجهاز السابق خرجت هى الأخرى تعلن عن نفسها، بكلام مستتر أحيانا، تدّعى فيه الدفاع عن «الرسالة السامية»، وبكلام معلن تهاجم فيه البرلمان. نفس هذه الأجهزة شهدت أكبر امتهان لأعضائها الموقرين أيام حكم مبارك لكن أحدا من الأشاوس لم ينبر للدفاع عنها. والثمن بخس -توريث المهنة للأبناء- يا لضيعة العدالة! والأنكى من ذلك بدء تسريب رواية جديدة للثورة، هى رواية مبارك ونظامه فى جوهرها ومظهرها، لدرجة أن الإعلامى سيد على يطالب نائب الرئيس السابق اللواء عمر سليمان، والمخابرات العامة (التى يفترض أن لها قيادة جديدة الآن) بأن تخرج علينا بالحقيقة. ولك أن تتوقعى ما هذه الحقيقة. إنها شىء يختلف تماما عما عشتيه فى الميدان. شىء يقول لك إن الإخوان الذين -رغم كل الاختلاف معهم- كانوا إلى جوارك يوم موقعة الجمل، ومنهم من جاء من بيته مسرعا للدفاع عن الميدان ساعتها، لم يكونوا حقا إلى جوارك، بل كانوا فوق الجمال. يعنى باختصار سيقنعون من حولك أن الثورة كلها كانت «فوتوشوب»، وربما بأن قوادها الحقيقيين -مثل السيد جمال مبارك والسيد أحمد عز- ملقون الآن فى السجن. بينما أعداؤها، الإخوان المسلمون، صادروها واستولوا على مكاسبها. ما يجرى الآن ليس أقل من التجهيز لحادثة منشية أخرى، مسرحها ميدان التحرير بدل المنشية، والقاهرة بدل الإسكندرية. السلطة تجهز لكل جيل فى مصر ما يصيبه بالانفصام، ما يصيبه بفقدان الثقة فى العالم من حوله، ما يشعره بأن كل ما عاشه فى السابق كان وهما. السلطة تفعل ذلك كمقدمة لعملية غسيل مخ جماعية. كانت النكسة لجيل، وكان الانقلاب على دعاية مصر الناصرية وشعاراتها فى جيل. ثم إن هذا -على ما يبدو- سيكون نصيب جيلنا. لا تستهينوا بالنتائج. كل الشخصيات المشوهة التى ورثناها فى مصر نتاج لهذه العملية. هذا المثقف الذى يقول ما لا يفعل، والذى يلهث بموهبته لغرض التطبيل للسلطة، وهذا الحقوقى الذى يمتهن تفصيل القوانين، وهذا الإعلامى الذى يكذب بلا حياء. بل وهذا الإسلامجى الذى ليس فيه من الإسلام إلا اسمه، ولا من الدين إلا رسمه -لحيته وزبيبة صلاته- كل هؤلاء قادمون فى نسخة جديدة تنتمى إلى جيلنا، لو لم ننتبه. ولا سبيل إلى الانتباه إلا بممارسة السياسة. هذا العلم الذى وضع لترجمة الرغبات المجتمعية إلى سلطات، وآليات اتخاذ قرارات، وكيفية إشراك الشعب فيها. لا سبيل إلا باستخدام قوتنا السياسية إلى أقصى حد ممكن. لا سبيل إلا باللجوء إلى فكرة وثيقة العهد مرة أخرى. هذا هو السبيل الوحيد المتاح أمامنا، لا يعوقه إلا أمران: أنانية الإخوان وحرصهم، وتخبط القوى المدنية وتنازع رغباتها. بالأصالة عن نفسى، لن أصوت للإخوان على هذه الحال، كما لن أصوت لشفيق على هذه الحال. لن أعطى صوتى إلا بضمانات مكتوبة تطمئنا إلى أن أصواتنا لن تستخدم لخلق استبداد جديد، والانقلاب على الثورة، وتضييع تضحيات من ضحوا من أجل وطن أفضل للجميع.