قلت فى مقال أمس إن العسكر وضع الإخوان فى خانة اليَكّ، أو قالوا لهم: كِش ملك. ورغم ذلك فإن عنوان مقال اليوم ليس مناقضا، إنما بحث فى الاحتمالات من زاوية أخرى. هذا هو الفرق الرئيسى بين التحليل السياسى والخبر. فى الأول منهما تعتمد على تصورك، وقراءتك، ما خفى من أخبار. السؤال أعلاه دافعه عندى شىء واحد، أن المستشار طارق البشرى سكت شهورا بينما المجلس العسكرى والإسلامجيون يروجون لهذا المسار: انتخابات برلمانية فشورى فدستور فرئيس. لم يعلق. ولم يقل إن المسار الذى تروجون له ليس المسار الموجود فى التعديلات الدستورية التى رأستُ لجنة صياغتها والتى صوتت أغلبية الشعب عليها بنعم. المرة الأولى التى تكلم فيها كانت فى شهر أكتوبر الماضى. بعد سبعة أشهر كاملة من الاستفتاء. أليس هذا غريبا؟ أليس صمته طوال هذه المدة غريبا؟ فى السياسة عليك أن تفترض أن لا شىء يتم اعتباطا أو سهوا، وخصوصا شيئا بهذا الوضوح. الإخوان يقولون علنا إنهم مع كتابة الدستور قبل الرئيس. لكنهم ربما يعلمون بالاحتمالات التى أمامهم فى هذا الخيار، ويعلمون بالمخاطر التى تواجههم كقوى برلمانية إن جاء رئيس طبقا للدستور الجديد بينما البرلمان منتخب طبقا للدستور القديم. وهذا الخطر ببساطة لا شىء أقل من أن يكون البرلمان مطعونا فى دستوريته. لمزيد من الاحتمالات المحيرة ارجعى إلى مقال أمس من فضلك. هناك احتمال أن طارق البشرى ذا الميول الإسلامجية وصبحى صالح الإخوانجى الصِّرف سكتا عن هذا قصدًا، ولوقت عوزة، أما الآخرون من أعضاء اللجنة فسكتوا لأن «المجلس عايز كده». أو ربما كان انتخاب الرئيس أولا ثم كتابة الدستور هى الخطة المتفق عليها وقت كتابة الدستور، لكن جدّت فى الأمور شكوك لدى أحد الطرفين (العسكر والإخوان) وأراد الطرف الآخر طمأنته. لكن المؤكد أن المسار الذى يروَّج له منذ الاتفاق على التعديلات الدستورية ليس هو المسار الذى قال له الشعب: نعم. والمؤكد أيضا أن الإخوان الذين رفعوا شعار «عدم الالتفاف على الإرادة الشعبية» فى كل خطوة ثم التفوا هم عليها عند موضوع الدستور والرئيس، قد دلسوا، وراهنوا على مصداقيتهم. مرة أخرى: أليس هذا غريبا وداعيا إلى التساؤل عن الدافع من ورائه؟ لو صدقت نظرية وقت العوزة، فمعنى هذا أن الإخوان أضمروا فى أنفسهم هذه الثغرة حتى ضمان الأغلبية البرلمانية. ستسأليننى: فلماذا إذن يصر الإخوان علنا حتى الآن على الالتزام بالمسار الذى يضع كتابة الدستور قبل الرئيس؟ لماذا لم يخرجوا ويعلنوا للشعب أنهم «فهموا غلط»؟ والإجابة ببساطة، لأنهم الإخوان، وهم أساتذة فى فن المراوغة السياسية. أسس المراوغة السياسية موجودة فى البناء الفكرى للجماعة، الذى يقترب إلى المظلة أكثر منه إلى الحركة. فى داخل الإخوان قوس قزح فكرى (لكى أكون مهذبا) يجتمع على ما اتفقت ألوانه عليه، ويعذر بعضه بعضا فى ما اختلفوا فيه. وهو ينعكس أيضا إعلاميا لأن للإخوان أعضاء ومتعاطفين موجودين تقريبا فى كل منحى من مناحى الحياة. كل ما تفعله الجماعة هو الإبراز والإخفاء. كم مرة سمعت تصريحا لإخوانى ثم خرجت الجماعة تقول إن صاحب التصريح مسؤول عن نفسه؟ الجماعة صادقة، ولكن ليس بنسبة 100٪. ربما استخدمت الجماعة هذه الحقيقة فى حالة متعاطف كالمستشار طارق البشرى، حتى حسبت حساباتها ودرست خياراتها، وأهم من ذلك، اطمأنت إلى قطع العسكر شوطا لا يمكن الرجوع فيه من المسار السياسى. ولو نظرتِ حولكِ ستجدين أن بعض صفحات الإنترنت، ذات العلاقة مع الإخوان، صارت أكثر وضوحا فى عدائها للمجلس من ذى قبل، وصارت واضحة تماما فى مطالبتها برئيس. ربما نفهم من ذلك أن الجماعة «لا تمانع» فى خيار الرئيس قبل الدستور. لو كان الوضع كذلك فهو اختيار ذكى، لأنه أقل الضررين. فى مقال أمس ذكرت أن من الآمن للإخوان أن يحظى البرلمان والرئيس كلاهما بنفس «الضعف» الدستورى. لاحظى أن الدستور لن يذهب تحت قيادة الإخوان بعيدا جدا فى تحديد هوية الدولة. ولن يكون الخطوة المانعة الجامعة العاصمة كما نظن. فالدساتير تحركها التأويلات. «الإخوان» أيضا، كما يظهر من الممارسة، لا تحب دور القائد، بل تفضّل دور الحارس. تفضّل أن يتقدم آخرون ثم تحدد الجماعة توجهها. وهذا ما تفعله الآن فى موضوع الرئيس قبل الدستور. تذكّرى تصريحات المرشد عن مبارك، أبى المصريين جميعا، وتصريحاتهم الأخرى عن عدم المشاركة فى الثورة، ثم التحاقهم بها بعد ذلك. لا أريد أن أفرد لوجهة النظر الثالثة مقالا بمفرده، فهى بسيطة جدا. أن يكون ما نحن فيه مجرد جزء من العك الناتج عن عدم الكفاءة والتضارب بين المصالح الخاصة واختيار المسار السليم. لا أريد أن أفرد لهذا مقالا لأنه يعنى أن كل ما نتحدث عنه «مالوش لازمة»، وأن تضحيات كبرى وثورة عظيمة انحرفت بسبب مجموعة من ضيّقى الأفق محدودى الكفاءة.