كتب الاستاذ الكبير فهمي هويدي مقالا بعنوان "حين يصبح الشعب هو المشكلة" في جريدة الشروق بتاريخ 31 مايو، وصوَّب الكاتب الكبير كل سهامه نحو جملة من القضايا باتت أشبه بالديباجات لكاتب من نوع الاستاذ هويدي، فبوصفه أحد الكتاب المدافعين عن الإسلام السياسي والإخوان المسلمين؛ هاجم كل النخبة المثقفة التي تدعو الى دستور جديد قبل الانتخابات، كما هاجم الليبراليين واليساريين وكل من ليس له صلة بالإخوان المسلمين، كما هاجم من انقلب على نتيجة الاستفتاءات التي أحرز فيها الشعب نصرا كبيرا لصالح "نعم" بنسبة وصلت إلى 77% ولم تبقَ إلا فئة قليلة، ربما منحرفة، هي التي قالت "لا" فانقلبت على خيار الديمقراطية وفرضت وصايتها على الشعب المصري، الشعب الذي بات بالنسبة لهذه النخبة – وفقا للاستاذ الكبير- مشكلة المشكلات التي يجب حلها بقهره مرة أخرى تحت راية الوصاية والرعاية. وهذا النوع من الطرح والمعالجة من جانب كاتب له تاريخ عريق في الكتابة السياسية مثل الأستاذ فهمي هويدي، يستحق وقفة للتأمل المتروي والتفكير العميق والتحليل النقدي، ليس للمقال بحد ذاته بقدر ما هو لموقف الكاتب والمثقف من الواقع السياسي بشكل عام. (1) يقول الاستاذ فهمي إن التعديلات التي أيدتها أغلبية ساحقة مثلت "وثيقة لها حجيتها الدامغة" لرسم خارطة طريق من شأنها أن توضح معالم تسليم السلطة إلى مدنيين، انطلاقا نحو تأسيس المجتمع المدني "الذي يتشدق به الجميع" – ولا أدري سببا لضيق الكاتب من المتشدقين بالمجتمع المدني – ولما كانت نتيجة قبول التعديلات أغلبية ساحقة ماحقة؛ فإنه كان على القلة القليلة الباقية أن تلتزم بالنتيجة وفقا لمعايير العملية الديمقراطية. ولكن القلة القليلة لم ترضَ بهذه النتيجة وطفقت تشيع في الأرض الفساد، حيث إنهم اتهموا لجنة تعديل الدستور وقالوا فيها كلاما يبدو أنه بذيئا وقبيحا وكاشفا للعورات لأن الكاتب الكبير "يستحي" أن يعيده على مسامع القراء. وهذا قول مردود عليه يا أستاذي الكبير، فأولا كان الحزب الوطني يفوز بأغلبية ساحقة في كثير من الانتخابات وفي وقت من الأوقات ما كان لكاتبٍ أن يجرؤ على توجيه أي اتهام للعملية الانتخابية. وثانيا هذه التعديلات التي ظهرت سريعا وتم اعدادها سريعا والتصويت عليها سريعا، لاقت كثيرا من الرفض ليس فقط من جانب سياسيين محملين بأفكار وأيديولوجيات سياسية، وإنما رفضها أيضا قانونيون ومستشارون وقضاة ورأوا أنها غير دستورية من جانب وغير معبرة عن طموح الشعب المصري صانع الثورة من جانب آخر(مع الأخذ في الاعتبار أن شباب الثورة وصانيعها كانوا من فئة ال22% التي صوتت بلا.. على الأقل وفقا للمعلومات التي جمعتها عبر الانترنت والمعارف الشخصية). ثالثا كانت الحجة الرئيسية لكل من نادى بنعم أن التصويت بالإيجاب على التعديلات سيقود البلاد إلى مرحلة الاستقرار – وهي أحدى أوراق الضغط والخداع الرئيسية التي تم التلاعب بها وخداع الشعب – ولكن ما نشهده في الوقت الراهن أكبر دليل على وهم دعوات الاستقرار. رابعا، بعد التعديلات ظهر إعلان دستوري غريب وغامض ودون أي استفتاء للشعب – الشعب الذي يدافع عنه ومن أجله الأستاذ الكبير – فلماذا لم يكن هناك اعتراض على هذا التغييب القسري؟!!. خامسا اشتملت اللجنة القائمة على التعديلات الدستورية على رئيس هو المستشار طارق البشري الذي كلفه المجلس العسكري باختيار أعضاء لجنته، وفقا لما نشرته الصحف آنذاك، ومن المعروف أن المستشار البشري له خلفية إسلامية شهيرة وعريقة، هذا بالنسبة لرئيس اللجنة، أما العضو المحترم المحامي صبحي صالح – صاحب المواقف الغريبة حيث يطلق تصريحات نارية تثير البلبلة ثم يتهم الإعلام بتشويه أقواله وعندما تثبت عليه الواقعة يعلن أنه لم يكن إلا مازحا – فهو الشخصية الإخوانية الرئيسية في اللجنة والغريب – سواء كان الاختيار بواسطة البشري أو بتكليف مباشر من المجلس العسكري – أن صالح الإخواني هو الوحيد المنتمي لتيار سياسي في هذه اللجنة وكل من سواه جميعا من رجال القضاء والقانون الأجلاء.. أليس هذا غريبا؟؟!!. (2) في واقع الأمر لا أهدف من هذا المقال إلى تفنيد أراء الكاتب الكبير أو الرد على اتهاماته للنخبة والمثقفين ومقارعته الحجة بالحجة، وليست الفقرة السابقة إلا غيضا من فيض ونموذجا للمقال الطويل الذي اجتهد فيه الأستاذ لدحض موقف "الليبراليين"، وإنما الهدف من المقال توضيح أن الحقيقة ليست بسيطةً مسطحة، وإنما هي مليئة بالتعاريج والدروب الملتوية، ولا يمكن بلوغها بسهولة أو من خلال درب وحيد، وكل ما أسعى إلى توضيحه أن ثمة خللا وجملة من المشاكل والسلبيات في المرحلة الراهنة، إذا لم نعترف بها ونشير إليها بالبنان صبحا ومساء، وصمتا وجهارا، فسوف تكون العاقبة وخيمة على الغافلين. وهنا يظهر دور الكاتب بوصفه مثقفا مسئولا عن توجيه الرأي العام وإرشاده وتوعيته وتعليمه وتثقيفه في بعض الأحيان. (3) لقد مر فن التمثيل بمراحل تاريخية مختلفة أهمها وأبرزها مرحلة المؤلفين المسرحيين الكبار الذين كانوا ينشأون في الفرقة المسرحية ثم يكتبون نصوصها ويقومون بتمثيلها بأنفسهم فيكون الكاتب سيد الكلمة وعبدها في نفس الوقت، هو القارئ والمقروء، والكاتب والمكتوب، ولكن بعد أن تدهورت الفنون كما تدهورت سائر الأشياء في عالمنا المشوه، أصبح الممثل مجرد وسيلة في يد الكاتب، وتحولت حنجرة الممثل – كما قال أحدهم – إلى ورق أبيض يكتب عليه المؤلف ما يشاء، وبقدر التزام هذا الشئ الذي تحول إلى بوق بكلمات المؤلف، بقدر ما يكون ملتزما بأخلاق وآداب المهنة، ومن ثم ينال الرضا ويحظى بالقربى، ولا يخرج على النص إلا الراسخون في العلم أو من لهم الحق في الخروج، وذلك لأسباب مختلفة ليس المجال هنا لذكرها. وهذه ليست مقدمة عن فن التمثيل التي ربما يكون فيها الكثير من الأخطاء الأكاديمية، ولكنها الصورة التي أريد استعارتها بهذا الشكل للحديث عن كُتاب عصرنا، ومن بينهم الأستاذ الكبير فهمي هويدي. ما أحاول إبرازه هو أن علاقة المثقف أو الكاتب بالسلطة لا يجب أن تكون علاقة الممثل بخشبة المسرح في عصور الانحدار، ولا حتى في عصور الازدهار. ذلك أن المثقف أو الكاتب لا يجب أن تربطه أي علاقة بأصحاب السلطة مثلما هو الحال بين المؤلف والممثل، لأن غاية كل منهما مختلفة، أو على الأقل يجب أن تكون كذلك. فالسياسي بشكل عام يسعى إلى ما هو ممكن، أي إلى ما يتمكن من تحقيقه وفقا لشروطه الخاصة والشخصية وارتباطاته وعلاقاته وحساباته ومصالحه...إلخ، أما المثقف أو الكاتب فيجب أن يمتلك عقل فيلسوف وقلب شاعر، يسعى عن طريق الأول إلى البحث عن شروط إقامة مجتمع أفضل، وبقلب الشاعر ورهافة إحساسه ينشد "المستحيل". إن أهم ما يميز الحلم أنه شئ لا يتحقق، بل إنه إذا ما تحقق تخلى عن جوهره وفقد ذاته، إن سحر الحلم يتبدى في عدم التحقق، لأنه يخلق باستمرار رغبات وأحلاما جديدة من أجل تحقيق المستحيل، وتكون النتيجة هي السعي المستمر والدؤوب إلى خلق واقع أفضل، إنها صورة لمجتمع لا يكل من الأحلام، ولا يمل من العمل لتحقيقها، أما إذا تحول المثقف أو الكاتب إلى مجرد مبرر لسلطة أو جماعة باتت على أعتاب باب القصر؛ فإن الأمر لا يعدو أن يكون تكرارا لعلاقة المثقفين بالديكتاتوريات العربية والغربية على السواء، وما يقوم به الاستاذ فهمي هويدي في الوقت الراهن لا يمكن قراءته إلا في هذا السياق، لا سيما عندما يصل الأستاذ بهذه الصورة السيئة إلى حدها الأقصى في دفاعه، ليس عن السلطة الجديدة التي تخلصت من قيودها القديمة بفضل شباب الثورة، وإنما في دفاعه عن أحد أشكال الاستبداد والقهر والديكتاتورية العربية، أقصد دفاعه الغريب والمخزي عن الرئيس السوري بشار الأسد، وصمته عما يجري في البحرين، بينما رأيناه يشحذ سيفه الهمام في وجه الرئيس اليمني والليبي ومن قبلهما المصري، وهو ما عرضه الكاتب أشرف عبد الشافي في مقال طويل نزع فيه الأقنعة وكشف المستور تحت مقال بعنوان "فهمى هويدى.. وممارسة فن البغاء الصحفي بخصوص ثورة سوريا" وقد ملأ مواقع الانترنت لمن يريد الاطلاع عليه. إني عندما أقول إنه على الكاتب أن يقف موقف طالب المستحيل، ومن ثم لا يرضى عما يجري حوله، لا أقصد كما يعتقد البلهاء والسذج أن أعارض من أجل المعارضة، فليس لما أقوله – في الأساس – صلة بالمعارضة السياسية الحزبية التقليدية، وإنما أقصد أن المفكر أو المثقف أو الكاتب عليه مسئولية مقدسة، وهذه المسئولية تتمثل في أنه يجب أن يكتب من أجل الأفضل، ودائما الواقعي أقل جمالا واكتمالا من المثالي، ولما كان بلوغ "المثال" في أي شئ مستحيل، فإن المثقف عندما ينشد هذا المستحيل فإنه لا يهدر وقته، ولكنه في الحقيقة يكدح من أجل بلوغه، فإن لم يبلغه فقد اقترب منه، وبالتالي يتجاوز الراهن إلى ما هو أفضل منه، ولكن ما يكتبه الأستاذ تكريس لواقع جديد، واقع مازال بذرة صغيرة تنمو وسط أجواء مرتبكة ولا تنظر إلا إلى مستقبل اخضرارها، فكيف سيكون الحال إذن بعد أن تغدو هذه البذرة شجرة متشابكة الأغصان؟! (4) لقد تعلمت القراءة – من بين ما تعلمت – على مقالات الأستاذ، وظلت جريدة الأهرام ردحا من العمر – بالنسبة لي – مجرد جريدة أسبوعية، جريدة لا تصدر إلا يوم الثلاثاء فقط، تعلمت معه الإخلاص وحب الوطن، ولكني تعملت من الحياة أيضا ومن الفلاسفة، كيف يفكر الإنسان بضربات المطرقة، فلا يدع أمامه صنما ولا تمثالا إلا وحطمه، تعملت الحرية في التفكير، وعدم التمثيل على أي خشبة مسرحية مهما كانت، هذا ما تعلمته وما يجب عليّ القيام به، وفي تصوري ما يجب على كل كاتب أيضا أن يقوم به خاصة في المرحلة المقبلة، إن ما تشهده مصر في الوقت الراهن ليس في حاجة إلى ملقن مسرحي يلقن الناس، ولا فقيه يفتي فتاوى تحشد الناس، ولا قناع يخفي عورات الحراس، ولسنا في حاجة إلى خطاب سياسي يعتمد على براعة الجدل والقدرة على استمالة الجماهير بواسطة مقولات وتصورات هي في الأصل مشوهة وبلا شرعية. إن مصر في حاجة إلى مثقفين يعلمون الجماهير لا أن يستغلونهم في خطاباتهم السياسية.. وعلينا أن نتذكر أن سقراط الذي دافع عن شباب مدينته ورجالها قد قتلته الأغلبية وأعدمته الجماهير وأجهزت عليه الديمقراطية.. لأنه رفض أن يمثل على خشبة المسرح. * باحث دكتوراه في فلسفة الدين المعاصرة