أيام الخلاف حول الانتخابات أولا أم الدستور أولا، استخدم الإسلامجيون طريقتين فى الدعاية: الأولى منهما تدعو الناس إلى التصويت بنعم بغرض الإبقاء على المادة الثانية من الدستور، رغم أن البنود الثمانية المستفتَى عليها لم يكن من بينها المادة الثانية. كذب سياسى واستغلال للدين فيه لم يكن جديدا عليهم. لكن الحجة الثانية التى استخدموها هى مربط الفرس هنا، فتلك الحجة الثانية كانت الحجة «الموضوعية» التى استخدمها قادتهم السياسيون، و«مثقفوهم»، وكُتّابهم والمتعاطفون معهم من الكتاب. قالوا إن إجراء الانتخابات البرلمانية أولا يعنى وجود حكومة مدنية وانتقال السلطة إليها سريعا. فهم إذن يقولون نعم للانتخابات أولا لكى يسرّعوا انتقال السلطة إلى المدنيين، والخلاص من «الحكم العسكرى». الآن، بعد إجراء الانتخابات يعود الإخوان ليقولوا إنهم لن يتسلموا السلطة. لماذا؟ ومن فضلكم اقرؤوا هذا جيدا، لأنه يكشف ما يكشف من سوء الطوية السياسى، ومن الكذب والتضليل الذى اتبعه الخطاب السياسى للإسلامجيين منذ تنحى مبارك إلى اليوم. يقولون: لأن الدستور الحالى هو نفس دستور مبارك الذى لا يعطى الأغلبية البرلمانية الحق التلقائى فى تشكيل الحكومة. أوَلم تكونوا تعلمون هذا؟ بلى كانوا يعلمون. وما معنى هذا؟ معناه أولا أن الحجة التى ساقوها كانت خداعا، فإجراء الانتخابات أولا لم يكن الغرض منه أبدا التسريع بنقل السلطة للمدنيين، بل ضمان الاستحواذ على كتابة الدستور، لأن إجراء الانتخابات سريعا فى ظل عدم وجود أحزاب أخرى، وفى ظل انشغال الشباب باستكمال أهداف الثورة، سيضمن لهم أغلبية كبيرة، وهذا ما حدث. لكن هذا لا يندرج تحت بند المراوغة السياسية المسموح بها، بل إنه نوع من العهر السياسى، أن تروج، متبجحا، لكذبة، تعلم أنت قبل غيرك أنها ليست صحيحة على الإطلاق. هذا «غش سياسى» يُخرِجك من صنف «السياسى الأمين الصدوق» ويدخلك فى بند «المطفِّفين سياسيا»، الذين يغشون فى بضاعتهم، ويخفون عيبها وهم يعلمون، ويبيعونها بغير صفتها وهم يعلمون. سنظل إذن تقودنا حكومات وجوه حقبة مبارك، وتحت سيطرة المجلس العسكرى، حتى نكتب الدستور أولا. وما من انتقال للسلطة سريعا ولا دياولو! وخطابى الآن إلى شباب الإخوان الذين طالما دخلوا معنا فى جدل ناصروا فيه، بحسن نية، حجة إجراء الانتخابات أولا لتسريع انتقال السلطة: هل وجدتم ما وعدكم قادتكم حقا؟ فإنهم قد كذبوا علينا وعليكم كذبا أسهم فى جعل مسار الثورة كما ترون، كذبا فتح الباب لأن يفقد قرابة مئةٍ أرواحَهم، وأكثر من ألف شخص أعيُنَهم، من فبراير الماضى إلى الآن. والإجابة أتركها لضمائركم، التى أرجو أن لا يكون التركيز على السمع والطاعة قد أتلف قدرتها على محاسبة النفس، وتقويم العِوَج، والاضطلاع بالمسؤولية الفردية للإنسان تجاه اختياراته. ومعنى هذا الكلام أيضا أن من نادوا ب«الدستور أولا» قد صدقوا النصيحة، وأن الموضوع لم يكن تشتيتا ولا كان من نافلة الكلام. إذ اختيار المسار السياسى السليم يؤثر على كل شىء آخر. وحسن السياسة هو الذى يحقق الأمن ويحقق الاستقرار ويدفع عجلة الإنتاج. بل إنهم قد صدقوا النصيحة حين قالوا إن هذا هو السبيل الأمثل لضمان انتقال السلطة إلى المدنيين فى أقرب وقت. ويقودنا هذا إلى السؤال التالى: ما وظيفة الأغلبية البرلمانية حاليا؟ أن تقوم بدور المعارضة الكبيرة؟ هل ستملك القدرة على إسقاط الحكومة أم أن الدستور لا يخول لها هذا الحق أيضا؟ خذ عندك إذن مزيدا من العك السياسى، لأن الدساتير المستبدة تُكتب لأوطان يحكمها مستبدون، بمعنى أن هذا الدستور الحالى الذى يركز كل الصلاحيات فى يد الرئيس كان صالحا تماما لعصر يكاد فيه الرئيس يملك كل ما دون السماء على أرض الوطن، لعصر يرأس فيه الرئيسُ الحزبَ الحاكم، ويضمن فيه الحزبُ الحاكم أغلبيةً، ولا خوف فيه من تناقض بين حزب الأغلبية والرئيس. أما الآن، مع وجود أغلبية منتخَبة معبّرة عن رأى الشعب، ووجود حكومة معيَّنة من المجلس العسكرى غير المنتخَب، فكيف ستقسم الصلاحيات؟ ولمن الكلمة الأخيرة فى الثقة بالحكومة؟ الشعوب تنتخب أغلبية برلمانية لغرض واحد: أن تكون معبرة عن الإرادة الشعبية فى سياسة الدولة. هل لديكم آلية يا حزب الحرية والعدالة لتحقيق هذا الغرض؟ أخبرونا بها. أما ما سوى ذلك، فإن هذه عملية سياسية «فوتوشوب»، أشرف على إخراجها والتضليل بها المجلس العسكرى، «والإخوان المسلمون» المطففون. ألا ويلٌ للمطفِّفين.