بعض من «أنصار الدولة المدنية» يقولون إن إعطاء الجيش وضعا خاصا فى الدستور كحامى ل«مدنية الدولة» هو الضمان الوحيد لبقائها علمانية. هؤلاء لا أفهمهم، ولا أفهم كيف لا يرون كم المتناقضات التى فى هذه الجملة القصيرة. لا يرون أن كلمة مدنية -وأفضل تسميتها دولة المواطن- نشأت خصيصا لنفى النخبوية، لنفى سيطرة أى فئة أو نخبة على الحكم، بل لكى يكون الحكم لذوى الكفاءة من المواطنين من كل الفئات، من خلال انتخاب حر ومباشر. يقدم هؤلاء مجموعة من الحجج لتعضيد وجهة نظرهم. الحجة الأولى هى أن التيارات الدينية فى طريقها إلى الحصول على أغلبية فى البرلمان، وأنها ستكتب دستورا رجعيا ينتهك «حقوق» الأقليات، وربما النساء، ويعبر عن وجهة نظر أيديولوجية خاصة لا إنسانية شاملة، ويضمن الحقوق كما يراها أصحاب دين معين وفكر معين، لا كما تعنى الكلمة التى تُمَثَّل بإنسانة تحمل ميزانا وتضع عصابة على عينيها، فلا تميز بين أحد وأحد، لا بلون ولا بجنس ولا بعنصر. الحجة الثانية هى أن هذا ما حدث فى تركيا إبان تحولها من دولة الخلافة العثمانية إلى تركيا الحديثة، حيث ظل الجيش حاميا لعلمانية الدولة، وإنه إذا أردنا علمانية الدولة فلا سبيل أمامنا غير هذا السبيل. بداية، أنا من أنصار العلمانية، أى فصل سلطة الدين عن السلطة التنفيذية الموكل لها إدارة شؤون الناس، لأن الدين ينبغى أن يظل فوق رؤوس المؤمنين به، أما السلطة التنفيذية فينبغى أن تظل طوع أيديهم، لكن العلمانية لا يجب أن تتحول إلى «دين» بديل، نطيعها مهما كانت العواقب ومهما كانت الوسائل. ستالين كان علمانيا، لكنه أنشأ دولة مستبدة لا تقل سوءا عن النموذج الذى تقدمه الدولة الدينية، وحول نفسه إلى «آية العلمانية» ستالين. لا نريد نموذج ستالين طبعا، ولا يبدو أننا نسير فى هذا الاتجاه. فلننظر إذن إلى النموذج التركى، وهذا أيضا كان سيئا وانقلابيا، ولم يحترم حقوق الأقليات، ولا الحريات الشخصية للمتدينين. بل ألقى الجيش بثقله على اختيارات المواطنين، غالبا بدعاوى «معنوية» لا تستطيع حسابها، ولا عدها ولا وزنها، من أمثال الهوية والوطنية التركيتين.. هل نريد هذا النموذج؟ أتحدث عن نفسى هنا- أنا لا أريده. هذا يعنى أننى أتفق مع القائلين بالحجة الأولى فى أنى لا أريد دستورا ينتهك حقوق الأقليات والأفراد ذوى التوجهات المختلفة على أسس دينية. لكننى أيضا -وهذه هى نقطة الخلاف معهم- لا أريد أن يكون البديل سلطة غير منتخبة ترى التاريخ قطار سكة حديد تقوده هى إلى نهاية تحددها هى وتضبط هى مسارها. فكيف المخرج من هذه الحيرة؟ المخرج أن أدافع عن مبادئى ولا أخونها. أن أرفض سيطرة المؤسسة العسكرية (أو أى مؤسسة أخرى إلا مؤسسة القضاء الدستورى) على تفسير الدستور. وفى نفس الوقت أطالب بمعايير واضحة جامعة وشاملة لاختيار لجنة صياغة الدستور، وأن أنسق مع القوى السياسية الأخرى بهاذين الموقفين متزامنين، للوصول إلى موقف تفاوضى. إن وافقوا فبها ونعمت، وإن رفضوا فقد تجاوزنى العيب دون أن يلطخنى. هناك حجة أخرى يسوقها بعض «المدنيين»: يقولون إن الإسلامجيين خانوا القوى الوطنية من أجل مصلحتهم، وإن الوقت قد حان لكى نتركهم يخوضون حروبهم بأنفسهم فى مواجهة المؤسسة العسكرية. وأقول لهؤلاء بداية إن المعركة ليست معركتهم، بل معركتنا جميعا. أولا: للأسباب «المبدئية» التى ذكرتها أعلاه التى لو خنتها فلست أقل انتهازية ممن تنتقدهم، وثانيا: لأسباب براجماتية. لو تركت الإسلامجيين وحدهم سينتهى الأمر بصفقة أخرى بينهم وبين المؤسسة العسكرية، تعطيهم فيها بعض التنازلات وتأخذ منهم بعضها. والنتيجة قدر أقل من الديمقراطية. هذه هى النتيجة الوحيدة حين تترك الساحة لصراع بين قوتين غير ديمقراطيتين فى جوهرهما. يبقى سؤال: من الضامن إذن ضد الانقلاب على الديمقراطية؟ وهنا يريد السياسيون حلولا براجماتية مبتكرة تأخذ فى الحسبان موازين القوى ولا تحلق فوق سحاب المبادئ المطلقة. على سبيل المثال: أن تكون المحكمة الدستورية هى الضامن لاحترام دستور البلاد، وأن يكون الجيش هو القوة المنوط بها تنفيذ هذا الحكم القضائى، وذلك خلال فترة انتقالية محددة سلفا، ولتكن دورتين انتخابيتين. بهذه الطريقة يفقد أى انقلاب يقوم به مغامرٌ شرعيته، ويكون الغطاء الشرعى الوحيد مملوكا لسلطة مدنية مستقلة. ليس هذا أكثر من مجرد اجتهاد، على حد علمى القاصر.