كَثُر الكلام فى الآونة الحاضرة عن إعلان دستورى جديد يصدر من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وانقسمت الآراء فى ذلك، ووجب على الفقه الدستورى أن يسهم فى ذلك بالرأى العلمى المحايد. والرأى الذى نراه أنه لا يحق للمجلس الأعلى للقوات المسلحة الآن أن يصدر إعلانا دستوريا جديدا، فقد حدد المجلس الأعلى بنفسه المجال الزمنى لإصدار إعلانات دستورية فى موضعين هامين: فى بيانه الذى أصدره فى 23 مارس 2011 ونُشر فى الجريدة الرسمية، وفى الإعلان الدستورى الذى أصدره مع هذا البيان. وفى بيانه الذى أصدره فى 23 مارس 2011 أورد المجلس الأعلى فى نهايته نتيجة الاستفتاء على المواد التى كانت محلا للاستفتاء، وهى إحدى عشرة مادة، وانتهى فيه بالقول بأنه: فى ضوء ما أسفرت عنه نتيجة الاستفتاء من الموافقة على التعديلات الدستورية المطروحة، فقد قرر المجلس الأعلى للقوات المسلحة إصدار إعلان دستورى لتنظيم السلطات فى المرحلة الانتقالية القادمة، يتضمن أحكام المواد التى وافق عليها الشعب للعمل بمقتضاها، وذلك إلى حين الانتهاء من انتخاب السلطة التشريعية وانتخاب رئيس الجمهورية. وهكذا كان المجال الزمنى للإعلانات الدستورية هو الانتهاء من انتخاب السلطة التشريعية وانتخاب رئيس الجمهورية. وأكد المجلس الأعلى ذلك مرة أخرى وهو يضع فى ديباجة الإعلان الدستورى الحالى، أنه قد صدر بناء على «البيان الصادر من المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى 23 مارس 2011» أىْ البيان السابق. فأكد المجلس الأعلى للقوات المسلحة ذلك مرتين، أن هذا الإعلان الدستورى الذى يعمل به حاليا قد صدر فى حدود المجال الزمنى السابق، وهو «الانتهاء من انتخاب السلطة التشريعية وانتخاب رئيس الجمهورية». وقد تم انتخاب السلطة التشريعية فانتهى المجال الزمنى الذى وضعه المجلس الأعلى بنفسه لإصدار أى إعلان دستورى. وجاء المجلس الأعلى فأكد ذلك مرة أخرى فى المادة «61» من الإعلان الدستورى، فجاء نصها بأن «يستمر المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى مباشرة الاختصاصات المحددة فى هذا الإعلان، وذلك لحين تولى كلٍّ من مجلسى الشعب والشورى اختصاصاتهما، وحتى انتخاب رئيس الجمهورية ومباشرته مهام منصبه، كلٌّ فى حينه». فهذا إذن هو المجال الزمنى لسريان هذا الإعلان الدستورى وسائر الإعلانات الدستورية المشابهة. يضاف إلى ذلك أمر هام: أن انتخاب مجلس الشعب -الذى جعل له الإعلان الدستورى الحالى أن يتولى فور انتخابه سلطة التشريع- جعل مهمة المجلس الأعلى للقوات المسلحة التى حددها له الإعلان الدستورى محصورة فى بعض موضوعات من سلطة التنفيذ، فلم يعد له شىء فى سلطة التشريع، وإذا كان هو قد فقد كل اختصاص له فى سلطة التشريع العادى فمن غير المعقول عقلا ومنطقا أن يعترف له بمهام أخطر بكثير هى المساهمة فى سلطة التشريع الدستورى. والاعتراف الآن للمجلس الأعلى بحقه فى إصدار إعلان دستورى جديد بعد فوات المجال الزمنى الذى حدده هو نفسه مرتين يجعل ما قاله آنفا لغوًا لا يُعتَدّ به، وهو أمر لا يليق بكرامة المجلس العظيم الذى قام بدور تاريخى فى قيادة شؤون البلاد فى فترة من أصعب فترات تاريخها. وقد يقول البعض -دفاعا عن إعلان دستورى جديد- إننا فى حاجة ماسّة إلى مادة فى هذا المجال، أو مادتين فى مجال آخر، ونقول نحن إننا فى الحقيقة لسنا فى حاجة إلى مادة أو مادتين أو خمس مواد، وإنما نحن فى حاجة إلى أكثر من ذلك بكثير، فى حاجة إلى ما يقرب من 150 مادة!! فالإعلان الدستورى الحالى جاء فى 62 مادة، والدستور العادى (دستور 1971) مثلا جاء فى 211 مادة، فنحن إذن لنجد حكمًا دستوريًّا لكل موضوع فى حاجة إلى 150 مادة أخرى! ولسنا فى حاجة إلى ست أو سبع مواد، ولا يمكن أن يُضاف الآن إلى هذا الإعلان الدستورى 150 مادة! والحقيقة أن الخطأ عندنا قد جاء منذ البداية، إذ كان من الواجب أن نبدأ بالدستور قبل الانتخابات البرلمانية وقبل انتخاب رئيس الجمهورية، كان يجب أن نبدأ فى البداية بوضع الدستور، ولو أننا فعلنا ذلك لتحاشينا الكثير من الصعاب. ويهمنى الآن أن أسترعى الانتباه إلى الجمعية التأسيسية لوضع الدستور، فنحن قد أنفقنا جهدا كبيرا وزمنا طويلا فى أُسس تشكيل هذه الجمعية التأسيسية، ولم يكن ثمة داعٍ على الإطلاق لكل ما حدث، فهذه الجمعية التأسيسية ليست لوضع الدستور كما يقول الكثيرون، وإنما هى لمجرد اقتراح الدستور، ولا يمكن لفريق معين أو حزب بالذات أن يضع للبلاد دستورا على هواه وحده، ذلك لأن هذه الجمعية التأسيسية سوف تقترح على الأمة -مجرد اقتراح- دستورا معينا، فإذا وجدت الأمة أنه لا يعبر عن ضميرها وعن سائر مفاهيمها رفضت الموافقة عليه، وكان حتميا أن نأتى بعد ذلك بجمعية تأسيسية جديدة تضع دستورا جديدا، تتلمس فيه ما يريده الشعب من أحكام ومبادئ. وهنا أنبّه مرة أخرى إلى أن هذه الجمعية التأسيسية ليست هى التى تضع الدستور وإنما مهمتها مجرد اقتراح الدستور، فلا داعى للشد والجذب والنزاع والخصام فى تحديد أعضاء هذه الجمعية، فهى تقوم بعمل تحضيرى بحت، أما الذى يضع الدستور فى النهاية فهو الشعب بأن يوافق أو لا يوافق على ما تعرضه عليه هذه الجمعية التأسيسية. ومن هنا فإنى أرى أننا يجب أن نسرع فى تشكيل هذه الجمعية التأسيسية، واضعين نُصب أعيننا أنه ليس هناك خطر ينتج منها على الإطلاق، حتى ولو سيطر عليها فصيل واحد أو حزب سياسى واحد. إن الإسراع فى وضع الدستور يغنى تماما عن إيجاد حل لهذه المشكلة التى نواجهها، فى محاولة وضع إعلان دستورى جديد، ذلك أنه من المقطوع به ومن المسلم به دستوريًّا أنه لا يحق للمجلس الأعلى للقوات المسلحة الآن أن يصدر إعلانا دستوريا جديدا. وزير العدل الأسبق أستاذ القانون الدستورى بجامعة الإسكندرية