وظائف في 50 شركة ومؤسسة.. انطلاق الملتقى التوظيفي الأول لجامعة طيبة التكنولوجية في الأقصر    «الداخلية» تُعلن مواعيد التقديم وأماكن الاختبارات للقبول بمعاهد معاوني الأمن    غداً.. طرح مشروع قانون العمل للحوار المجتمعي    "إعلام النواب" توافق على موازنة "الوطنية للصحافة"    15 صورة.. تفاصيل انعقاد أول "هاكاثون" للجامعات التكنولوجية    مصر تعتزم دعم دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية    إذا أرادت أمريكا إنهاء الحرب..!!    حركة حماس تثمن إعلان مصر انضمامها لدعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل ضد إسرائيل    رئيس لجنة الانضباط ليلا كورة: ما زلنا ندرس قضية الشحات والشيبي.. وفيفا أبلغنا أنها شأن داخلي    "إلغاء منصب مدير الكرة".. علاء ميهوب مديرًا رياضيًا لفيوتشر    يوفنتوس بالقوة الضاربة في مواجهة يوفنتوس بالدوري الإيطالي    المؤبد لقاتل طليقته في الحجيرات بقنا    جنايات شبرا تعاقب المتهم بقتل جاره بالقناطر الخيرية    بإطلالة كاجول.. ميرهان حسين تتألق في أحدث ظهور لها - (صور)    "أثر الأشباح" للمخرج جوناثان ميليت يفتتح أسبوع النقاد بمهرجان كان السينمائي    بعد تصدرها التريند..تعرف على عدد زيجات لقاء سويدان    أمينة الفتوى: سيطرة الأم على ابنتها يؤثر على الثقة والمحبة بينهما    رئيس جامعة طنطا يتفقد أعمال تنفيذ مشروع مستشفى الطوارئ الجديد    أسهل طريقة لعمل المايونيز في المنزل    اسكواش.. نتائج منافسات السيدات في الدور الثاني من بطولة العالم    فرحة في الكامب نو.. برشلونة يقترب من تجديد عقد نجمه    لجنة حماية الصحفيين: نشعر بالقلق جراء إفلات إسرائيل من العقاب    موعد عيد الاضحى 2024 وكم يوم إجازة العيد؟    قائد الجيش الأوكراني: الوضع في خاركيف تدهور بشكل كبير    الدورى الإسبانى.. قاديش يعزز من فرص تواجده فى الليجا بالفوز على خيتافى    "العيد فرحة وأجمل فرحة".. موعد عيد الاضحى المبارك حسب معهد البحوث الفلكية 2024    بالصور.. نجاة 14 راكبًا من الموت بعد سقوط "ميكروباص" في ترعة ببني سويف    مستشهدًا بالعراق وأفغانستان.. سيناتور أمريكي لإسرائيل: قتل المدنيين يزيد دعم وقوة خصومنا    المفتي يحذر الحجاج: «لا تنشغلوا بالتصوير والبث المباشر»    «تعليم النواب»: موازنة التعليم العالي للسنة المالية الجديدة 2024/2025 شهدت طفرة كبيرة    الثلاثاء.. مناقشة رواية "يوم الملاجا" لأيمن شكري بحزب التجمع    الصحة: الجلطات عرض نادر للقاح أسترازينيكا    تأجيل محاكمة المتهم بقتل سيدة لسرقتها فى حدائق القبة لجلسة 26 مايو    اليوم العالمي للتمريض.. قصة "سيدة المصباح" التي أنقذت الكثير من الأرواح    هشام آمنة: 256 مليون جنيه لتطوير منظومة إدارة المخلفات بالمنوفية    البورصة تخسر 25 مليار جنيه في ختام تعاملات أول الأسبوع    ارتفاع حصيلة ضحايا الفيضانات بأفغانستان إلى 315 شخصًا    المشاهد الأولى لنزوح جماعي من مخيم جباليا شمال غزة هربا من الاجتياح الإسرائيلي    مظاهرات الجامعات توقظ ضمير العالم    مجلس الشيوخ يقف دقيقة حدادًا على النائب الراحل عبد الخالق عياد    إعلان خلو مقعد الراحل عبد الخالق عياد من الشيوخ وإخطار الوطنية للانتخابات    بعد توجيهات الرئيس بتجديدها.. نقيب الأشراف: مساجد آل البيت أصبحت أكثر جذبا للزائرين    في العالمي للتمريض، الصحة: زيادة بدل مخاطر المهن الطبية    ضبط دقيق مدعم وكراتين سجائر قبل بيعها بالسوق السوداء في المنيا    تأجيل محاكمة المتهمين بقتل سائق توك توك وسرقته في الفيوم لعدم حضور الشهود    مجلس الجامعات الخاصة يكشف قرب الانتهاء من إنشاء 7 مستشفيات    kingdom planet of the apes على قمة شباك تذاكر الأفلام الأجنبية في مصر (بالأرقام)    البريميرليج يقترب من النهاية.. من يحسم اللقب؟    بايرن ميونخ يستهدف التعاقد مع مدرب "مفاجأة"    بنك ناصر يطرح منتج "فاتحة خير" لتمويل المشروعات المتناهية الصغر    «الداخلية»: ضبط 4 عاطلين بتهمة سرقة أحد المواقع في أسوان    أسيوط: إزالة 8 تعديات على أراضي زراعية ومخالفات بناء بمراكز أسيوط وصدفا وحي شرق    الجزار يوجه بعدم التهاون مع المقاولين في معدلات التنفيذ وجودة تشطيبات وحدات سكن لكل المصريين    الإفتاء: توضح حكم سرقة التيار الكهربائي    السيسي: أهل البيت عندما بحثوا عن أمان ومكان للاستقرار كانت وجهتهم مصر (فيديو)    إسلام بحيري يرد على سبب تسميه مركز "تكوين الفكر العربي" ومطالب إغلاقه    التنظيم والإدارة يعلن عن وظائف بجامعة مطروح    الصحة: تطوير وتحديث طرق اكتشاف الربو وعلاجه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملف خاص: من هم قتلة حسن البنا؟ (2)
نشر في التحرير يوم 02 - 09 - 2011

أحكمت الخطة وسُدت كل المنافذ أمام الإمام الشهيد حسن البنا، وهُيئ مسرح الجريمة تهيئة كاملة وأصبح الإمام الشهيد يقف وحيدًا فأنصاره وإخوانه في السجون والمعتقلات، كما سحبوا منه مسدسه المرخص، وقطعوا عنه الاتصال التليفوني في منزله، وصادروا عربة صهره، وآخر ما فعلوه أن قبضوا علي أخيه اليوزباشي بالبوليس عبد الباسط البنا الذي كان يلازمه كحارس.
وجاء يوم التنفيذ في الثانية عشر ظهرًا يذهب محمد الناغي – أحد أقرباء رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادي وعضو جمعية الشبان المسلمين والذي كان علي صلة بالإمام حسن البنا – ليطلب من محمد الليثي سكرتير قسم الشباب في الجمعية أن يذهب إلى الشيخ حسن البنا ويدعوه إلى جلسة مفاوضات جديدة، يقبل الليثي (رسول الناغي) رغم خوفه لأنه كان يعلم أن كل مَن يقترب من بيت الشيخ حسن البنا يُقبض عليه.
ويقول عبد الكريم منصور عن تفاصيل هذا الحادث -رفيق الشيخ حسن البنا أثناء حادث الاغتيال- الآتي:
في يوم الاغتيال كلفني الإمام الشهيد حسن البنا بالذهاب إلى التليفونات الخارجية للاتصال بالشيخ عبد الله النبراوي في بنها لكي أبلغه رغبة الإمام في الإقامة عنده في عزبته (أبعادية النبراوي) وحراسته. فلما تكلمت رد أهله وقالوا لا داعي لحضور الإمام لأن البوليس جاءنا وضربنا ودمر أثاث المنزل وممتلكاتنا واعتقل الشيخ عبد الله.
عُدت إلى الإمام لأخبره بنتيجة المكالمة، فقال إنه قد جاءه الأستاذ محمد الليثي رئيس قسم الشباب بجمعية الشبان المسلمين، وأخبره بأن الحكومة تريد استئناف المفاوضات، وأن بعض الشخصيات الحكومية ستحضر في الشبان لهذا الغرض، فأخبرت الإمام بأمر اعتقال الشيخ النبراوي ورجوته عدم الذهاب إلى الشبان المسلمين، فوافقت على مضض إذ أن الأسرة كلها كانت تشعر بالقلق من هذه المقابلة، ولكنه صمم على الذهاب قائلاً: إني وعدت ولا يجوز لي أن أخلف الميعاد”.
ويقول عبد الكريم منصور: “جلسنا منتظرين حضور ممثلي الحكومة لكن لم يحضر أحد، فقام الإمام الشهيد وصلي بالموجودين في الجمعية صلاة العشاء، وهنا طلب حسن البنا من محمد الليثي أن يستوقف تاكسي الذي لم يكن هناك غيره في الشارع كله”.
مشهد الاغتيال
يخرج حسن البنا ومعه عبد الكريم منصور يرافقهما محمد الليثي ليودع الشيخ، كان المشهد في شارع الملكة نازلي مختلف بعض الشيء، أعمدة الإنارة مطفأة، لا أثر لعربات الترام، هدوء غير معتاد في هذا الشارع الحيوي، لاحظ عبد الكريم منصور، وكانت سيارة أخرى تراقبهما، وحاول منصور أن يلفت انتباه الأستاذ البنا إلى ذلك فابتسم له غير مبال بتوجسه،لم ينتبه أحد إلى السيارة السوداء التي كانت تقف إلى الجانب الآخر من الطريق، بعد لحظة جاء ساعي الجمعية ويدعى إبراهيم ليخبر الليثي بأن تليفون يطلبه فاستأذن من الضيوف وعاد إلى الداخل.
جلس البنا في المقعد الأيمن من السيارة وصهره في المقعد الأيسر لم يتحرك التاكسي على الفور، لكنه انتظر قليلاً من دون سبب محدد ثم تحرك ببطء لمسافة خمسة أمتار تقريبًا، وفجأة ظهر رجلان يعبران الطريق جريًا، اتجه أحدهما صوب حسن البنا يحمل مسدسًا وأطلق عليه سبع رصاصات، واتجه الآخر صوب عبد الكريم منصور، وحطم زجاج السيارة، فقفز حسن البنا وجري خلفه حوالي 100متر، لكنه عاجله بضربة قوية أعادته إلى مكانه وأطلق عليه رصاصة أخرى من مسافة تقل عن متر. وكانت هناك سيارة تنتظر الجاني في ذات شارع عبد الخالق ثروت في المنعطف عند نقابة المحامين فاستقلها وهرب، وعاد حسن البنا وحمل عبد الكريم منصور الذي أصيب وأجلسه في السيارة.
وعندما سمع الليثي صوت طلقات الرصاص هرع عائد فرأي الجانيين، فصرخ في وجهيهما فأطلق عليه أحد الرجلين طلقة لم تصبه واستقرت في حائط الجمعية، بعد أقل من دقيقة وقبل أن يتجمع المارة على صوت إطلاق الرصاص انطلق الرجلان إلى السيارة السوداء التي اختفت في الظلام لكن شاب مجهول استطاع أن يلتقط رقم السيارة ويمليه على الليثي الذي لم يجد حوله إلا علبة سجائر فارغة ملقاة بالعرض ليدون عليها الرقم.
ولأن حالة الأستاذ عبد الكريم منصور كانت خطرة كان من الضروري نقله إلى مستشفى القصر العيني وأصر البنا على أن يصاحبه للاطمئنان عليه، لم تكن إصابة البنا قاتله ولكنه كان ينزف. تحامل حسن البنا على نفسه وحاول دخول مقر الجمعية ليطلب الإسعاف، واضع يده على الجرح يحاول أن يوقف النزيف قدر ما استطاع. ولكنها تأخرت فانتقلا عن طريق سيارة التاكسي، وكان سائق التاكسي غائب عن الوعي، أو ادعى ذلك، وعندما أفاق انطلق بسيارته إلى جمعية الإسعاف التي لا تبعد كثيرا عن مسرح الجريمة. حيث حمل حسن البنا عبد الكريم منصور وأدخله. وجاء طبيب الإسعاف ليسعف البنا فقال له: “أسعف الأستاذ عبد الكريم أولاً لأن حالته خطيرة”.
البوليس السياسي في مسرح الجريمة
في اللحظة التي يطلق فيها النار علي الإمام الشهيد حسن البنا وصهره عبد الكريم منصور المحامي كان هناك اتصال تليفوني بين البكباشي محمد الجزار (ضابط البوليس السياسي) وبين محمد الليثي (رسول الناغي) إلي الشيخ البنا الذي أخبره أن النار أطلقت الشيخ حسن البنا الآن، فسأله الجزار عما إذا كان قد توفي البنا أم لا؟
وبعد إطلاق النار جري الجانيان، وكانت عربة مدير المباحث الأميرالاي محمود عبد المجيد تقف في الجانب الآخر من شارع الملكة نازلي المقابل لجمعية الشبان المسلمين تنتظرهما. صعد الجانيان (الأمباشي أحمد حسين جادو، والأمباشي مصطفي محمد أبو الليل) إلي السيارة التي انطلقت بهما في سرعة مخيفة لتخفيهما عن الأعين ولتحول بينهما وبين من تحدثه نفسه بالقبض عليهما. وذهبت بهما العربة إلي فندق “إبدن هاوس” حيث كان في انتظارهما الأميرالاي عبد المجيد.
وكان في مسرح الجريمة أشخاص آخرون للتغطية علي الجناة لإتمام عملية الاغتيال، وكانت اعترافات سائق السيارة التي ابتعدت بالجناة عن المسرح هي الضوء الكاشف لمسرح الجريمة. وقد روي السائق محمد محفوظ – سائق السيارة التي كانت مخصصة لانتقالات الأميرالاي محمد عبد المجيد مدير المباحث الجنائية – أنه سمع خلال حوار بين اليوزباشي عبده إرمانيوس واليوزباشي حسين كامل إنهما كانا متواجدين بمكان الحادث ليلة وقوعه، وإنهما كان يمنعان الناس الاقتراب من مكان الحادث.
قال اليوزباشي عبده إرمانيوس لليوزباشي لليوزباشي حسين كامل:
“مش عيب عليك ساعة الضرب تأخذ بعضك وتجري وتسيبني أنا وحدي فيمسكني الأهالي لو قدر لهم أن يروني! “.
فرد حسين كامل عليه:
“وقفت بجوار عمود الترام الموجود أمام باب جمعية الشبان المسلمين، وبمجرد خروج الشيخ حسن البنا وعبد الكريم منصور وركوبهما السيارة الأجرة، ولقد سقيت أحمد حسين خمرًا وأمرته بالضرب لكسر اللوح الزجاجي الموجود أمام السائق بيده، وكنت أصيح أثناء الضرب: قنابل... قنابل حتى يهرب الناس”.
وكان في مسرح الجريمة أيضًا كل من (الجاويش محمد سعيد إسماعيل، والأمباشي حسين محمدين رضوان)، وكانا يرتديان ملابسهما الرسمية ويجلسان علي مقهى بلدي مقابل جمعية الشبان المسلمين ليكونا علي أهبة الاستعداد لتسلم القاتلين بوصفهما من رجال البوليس إذا تمكن الجمهور من القبض عليهما إيهامًا للناس بأنهما قد أصبحا في قبضة العدالة ثم يعمدان إلي إطلاق سراحهما حتى تتم الجريمة دون أن يهتدي أحد إلي الفاعلين!، وبعد ربع ساعة من وقوع الحادث كان الأميرالاي محمد وصفي (وكيل حكمدار القاهرة والمشرف علي البوليس السياسي) في مكان الحادث وسبق المصابين إلي دار الإسعاف ودخل غرفة العمليات، وكان يرتدي الملابس المدنية.
لم تكن إصابة البنا خطيرة .. لكنه ظل ينزف حتى الموت
وبقي الإمام حسن البنا ورفيقه الأستاذ عبد الكريم منصور وجروحهما تنزف دون إسعاف، ثم نقلا إلي القصر العيني، ثم دخل الطبيب وأراد أن يسعف حسن البنا أولاً، لكن الشيخ البنا طلب منه البدء بإسعاف عبد الكريم منصور نظرًا لخطورة حالته، وكان الأميرالاي محمد وصفي- مندوب الملك- قد سبقهما أيضًا في الدخول إلي غرفة العمليات التي أدخل فيها الإمام حسن البنا وحده، وقال للطبيب: “أنا جاي من عند الحكمدار لأعرف حالة الشيخ حسن البنا فقال له الدكتور: حالته ليست خطيرة”. وتم بعد ذلك الفصل بين عبد الكريم منصور والشيخ حسن البنا. كان محمد وصفي يتتبع سير الأمور ويحفظ لها مسارها الذي يحقق الهدف المرجو وهو موت الأمام حسن البنا.
وهذا كله من شأنه أن الإمام البنا لم يقتل برصاص المغتالين بل بأحد أمرين:
الأول: أنه ترك ينزف حتى أجهز عليه، ومنع الطبيب من إسعافه.
الثاني: أن محمد وصفي ارتكب جريمة القتل داخل غرفة العمليات. فقد أثبتت أقوال الشهود في التحقيقات أن محمد وصفي فرض نفسه في غرفة العمليات بوصفه ممثلاً لوكيل الحكمدار أحمد طلعت، وأخرج كل من كان في الغرفة، ولم يبق بجانبه إلا الطبيب المغلوب علي أمره، وقد ورد علي لسان الأمين الخاص للقصر الملكي: “إن الملك أرسل محمد وصفي للإجهاز علي حسن البنا إن كان لا يزال حيًا”.
تقرير الطبيب الشرعي
أثبت التقرير الشرعي في تقريره أنه شاهد بجثة المرحوم الشيخ حسن البنا سبعة جروح نتيجة الإصابة بسبعة مقذوفات نارية، نزيفاً بعضلات الصدر بالجهة اليمني، ونزيفًا خيفًا بتجويف الصدر الأيمن، ونزيفاً بالكتف الأيمن، وتمزقاً بأوردة الإبط ونزيفًا بعضلات الفخذ الأيسر، كما شاهد كسر بعظمتي الساعد الأيمن في ثلثه السفلي مع نزيف بالأنسجة.
وخلص الطبيب الشرعي إلي أن وفاة الإمام حسن البنا نتيجة النزيف الناشئ من تمزق الإبط، وإصابته حصلت من أربعة أعيرة نارية أطلقت عليه من مسافة حوالي نصف متر أصاب أحداها ساعده الأيمن، واثنان أصابا الصدر من الأمام للخلف والرابع أصابه في فخذه الأيمن باتجاه من أسفل إلي أعلي.
وشهد الدكتور يوسف رشاد أنه قد سمع من الدكتور محمد شكيب الذي اشترك في تشريح جثة الإمام حسن البنا أن إصابته لم تكن جسيمة، وكان يمكن إنقاذ حياته إذا خيطت جراح الإبط، ولكن ذلك لم يحدث فكثر النزيف منها، مما أدي إلي الوفاة.
وفي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل أخبر ضابط شرطة الشيخ أحمد البنا نبأ وفاة ولده وأن أوامر صدرت من عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية تقضي بنقل جثمان البنا من المشرحة إلى القبر مباشرة وتكليف قوات الشرطة بالقيام بذلك تحسب لوقوع أحداث قد تخل بالأمن العام، ولكن والد الشيخ طلب بإلحاح أن تشيع الجنازة من منزله وبعد مفاوضات وافقوا على ذلك شرط أن يتم الدفن الساعة التاسعة صباحًا في هدوء ومن دون أي احتفال، وتحت ستار الليل نقل جثمان حسن البنا إلى بيت الأسرة في الحلمية الجديدة في سيارة تحرسها قوات الشرطة وعند البيت كان هناك سياج أمني من جنود مسلحين يحيطوا بالمنطقة ويمنع كل من يحاول الاقتراب من المكان.
كان الوالد هو وحده الذي يعلم وينتظر، فأشقاء الفقيد جميعاً كانوا داخل المعتقلات، وفتحوا الباب وأدخلوا الجثة، وتشجع الوالد المحطم، بالبكاء، فقالوا له: “لا بكاء ولا عويل بل ولا مظاهر حداد، ولا أحد يصلي عليه سواك”.
ومُنع الناس من أن يقتربوا من البيت أو يشيعوا جنازته، فغسَله والده وكفنه، ولم يكن يحمل نعشه إلا الوالد العجوز ومكرم عبيد باشا، وثلاث نساء، وصلي عليه صلاة الجنازة بمسجد قيسون، لم يكن هناك رجل واحد ليصلي على الإمام، كما قامت قوات الشرطة بإخلاء المسجد واعتقال كل من يحاول اختراق الحاجز الأمني من حوله، بعد الصلاة حمل النعش على كتف الأب وعدد من خدام المسجد إلى السيارة التي اتجهت في موكب مشدد الحراسة إلى مقابر الأسرة في منطقة الإمام الشافعي في قبر مسوي بالأرض. والأكثر من ذلك، كان يتم اعتقال كل من يري حزينًا لموته أو من يقرأ الفاتحة له، وانطلقت حملة لاعتقال رواد المساجد، وتم تعيين الحراسات علي المقابر وتفتيش الجثث التي تدخلها خوفًا من خروج جثة الإمام.
ومشت الجنازة الفريدة في الطريق، فإذا بالشارع كله، وقد صف برجال البوليس، وإذا بعيون الناس من النوافذ والسخط علي الظلم المسلح الذي احتل جانبي الطريق. ومضي النهار وجاء الليل، ولم يحضر أحد من المعزيين، لأن الجنود منعوا الناس من الدخول، أما الذين استطاعوا الوصول للعزاء فلم يستطيعوا العودة إلي بيوتهم فقد قبض عليهم، وأودعوا المعتقلات إلا شخصًا واحدًا وهو (مكرم عبيد باشا).
وبعد ذلك سردت جريدة الكتلة ما يلي:
“هي الدنيا: في اثنتي عشرة ساعة قتل الشيخ البنا، وشرَح، وغُسَل ودُفن، وانطوت صفحات حياته... عادت النساء الثلاث اللاتي حملن النعش علي أكتافهن، وعاد الوالد الحزين، وقبل أن يغشي الظلام مدافن الإمام الشافعي كانت ثلة من الجنود، تحاصر الطرق المؤدية إلي المقبرة، وقوات كبيرة تحيط بمنزل الفقيد لتمنع الداخلين ولو كانوا من مرتلي آيات الذكر الحكيم، وتقبض علي الخارجين ولو كانوا من جيران الراحل الكريم.
من قتل حسن البنا؟
ظل الحديث عن حسن البنا بعد اغتياله في 12 فبراير 1949 أمرًا شائكًا لا يقترب منه الباحثون والمؤرخون، فلقد بقيت القضية محفوظة ضد مجهول طوال بقاء الملك فاروق في الحكم، ولم تستطع وزارة من الوزارات الثلاث التي تعاقبت بعد الحادث أن تمد يدها إلي الجناة، ولم تسفر التحقيقات عن شيء، حتى ثورة يوليو 1952حيث أعيد التحقيق للمرة الرابعة في عهد الثورة رغبةً منها في كشف مساوئ العهد الملكي.
في فترة ما قبل ثورة يوليو 1952حيث طرحت عدة تصورات إزاء مرتكبي الحادث، والنظرية السائدة بين الجماهير هي أن الشيخ حسن البنا المرشد العام الإخوان المسلمون قد تم اغتياله نتيجة مخطط دبره الشباب السعدي وبدعم ومساندة من أكبر المسئولين في الحكومة انتقامًا لاغتيال النقراشي باشا، وهذا الاتجاه يتجه إلي تحميل رئيس الوزراء مباشرة تهمة اغتيال البنا على أساس ما يتصف به إبراهيم عبد الهادي باشا من صرامة. وهناك نظرية أخرى يحبذها تمامًا رجال الأمن وتقول: “إن الاغتيال قام به أحد أعضاء الإخوان المسلمين إما لأن الشيخ حسن البنا خذل الإخوان المسلمين المعتقلين، وإما لأنه كان على وشك أن يعطي السلطات معلومات متعلقة بإمدادات الإخوان من الأسلحة، والنظرية الثالثة التي تنتشر بقوة تقول بأن الملك فاروق دبر مقتل الشيخ حسن البنا.
أولا: اتهام القصر
امتنع الملك فاروق عن الظهور في أي مكان أو الصلاة في المساجد، وبعد ستة أسابيع من اغتيال حسن البنا عاد الملك فاروق للظهور في المجتمعات العامة كما تقول البرقية رقم (50) التي بعث بها السير (رونالد كامبل السفير البريطاني بمصر) إلي لندن. كما أنه في جلسة محكمة الجنايات (29 أبريل 1954) أشار أكثر من متهم إلي أن الملك كان يري أن الإخوان المسلمين ومبادئهم خطر علي عرشه، ويعلن عن ذلك، فهم يقررون أن نظام الخلافة يكون بالبيعة، فوجه “الملك إلي حكومته الأمر بحل الإخوان”.
فلقد شهدت أغلب سنوات الأربعينيات توتر شديد بين الملك والجماعة حيث أن القصر بدأ ينظر للإخوان علي أنهم جماعة ثورية تريد الوصول إلي الحكم بالقوة. والقصر بني تصوراته علي ما كان ينقله الرسل الذين اندسوا بين صفوف الإخوان، والتي كان يستشف منها أن للإخوان رأياً أخر في نظام الحكم الموجود. وفي هذا نقل عن حسن البنا نفسه أنه قال لأحد المقربين إليه: “إنه لا خلاص ولا تقدم للبلاد العربية إلا إذا تخلصت من حكامها وأمرائها المسيطرين عليها”.
في المقابل، فقد راح بعض أفراد الجماعة يلومون الملك في السر والجهر بأنه كان وراء الانشقاق الخطير الذي حدث في صفوف الجماعة، وخروج أحمد السكري وآخرين من الجماعة عام 1947، لتفتيت الجماعة.
ويري البعض أنه بالرغم أن الحكومة كانت تعد ما شأنه أن يقضي علي البنا، لكنها لم تكن لتستطيع أن تفعل ذلك دون رغبة الملك، كما أن الملك استخدم كل أدوات وزارة الداخلية وأفعالها في القضاء علي البنا، فمن المعروف أنه ما كان أحد من المسئولين بوزارة الداخلية ليجرؤ علي مخالفة أمر الملك، وخاصة أن الوزارة كانت تشكل بمعرفته، فاستخدم كثيرًا من الوزراء في خداع البنا واستدراجه.
ولقد اشترك في المؤامرة لصالح الملك كل من إبراهيم عبد الهادي -رئيس الوزراء- ومحمد وصفي-رئيس حرس الوزارات- بالقدر الذي اشترك فيها مصطفي مرعي ومحمد الناغي والذي كان قريبًا لرئيس الوزراء، كما شارك في الشهادة الزور محمد حسنين عباس بالقدر الذي شارك فيها بالزور محمود منصور النائب العام السابق وعبد العزيز حلمي رئيس النيابة.
ومن المعروف أن إبراهيم عبد الهادي قبل أن يكون رئيسًا للوزراء للديوان الملكي بأمر الملك نفسه. ومن المعروف كذلك، أن ضباط القلم السياسي- كما يشهد إبراهيم عبد الهادي نفسه كانوا يواصلون تقاريرهم للسراي. ويروي يوسف رشاد أن الملك بادر – ليلة وقوع حادث الاغتيال – بالاتصال به في منزله تليفونيًا يزف إليه البشري، وكيف كانت تبدو علي لهجته دلائل الارتياح.
ثانيا: اتهام حكومة إبراهيم عبد الهادي السعدية
لقد اعتقد البنا أن إصداره لبيان عام بعد اغتيال محمود فهمي النقراشي سوف يعفيه أو يخيَل للآخرين أنه ليس محرضًا للاغتيال ولا جماعته هي المدبرة، ولكن ثبت من التحقيقات مع محمود العيسوي – قاتل النقراشي- أنه يدافع عن الإخوان، وأنه أحد مؤيديهم، وإنه يؤمن بكلامهم وأفعالهم.
ويروي اللواء صالح حرب -رئيس جمعية الشبان المسلمين- في ذلك الحين جانبًا مهمًا من الأحداث التي أعقبت ذلك، عندما التقي بالبنا بعد قرار حل الجماعة، وقال له البنا: “إني خيرت المسئولين في واحدة من ثلاث هي إما أن يطلقوا سراح كبار الإخوان لنعمل معًا جادين مخلصين حسب توجيه الحكومة حتى تطمئن ويزول ما في النفوس وتهدأ الخواطر، وإما أن يختاروا قرية ألجأ إليها ولو كانت مكان قفر، وإما أن يسمحوا لي بمغادرة القطر إلي أي بلد عربي أو إسلامي، فلم يستجيبوا إلي أي واحدة من الثلاثة”.
ويضيف حرب- الرئيس العام الثاني لجمعية الشبان المسلمين- أن:
“من شدة خوف حسن البنا من أن يتوعده أقارب أو أصدقاء من قتلهم أو الثأر الذي هدده به شباب حزب السعديين، كان شقيقه “عبد الباسط” وهو ضابط بوليس، يرافقه لتوفير الحماية له”. وقد بدأ السيناريو علي هذا النحو: (سحب الحكومة للمسدس المرخص من البنا، قطع خط التليفون حتى لا يتمكن من الاتصال بالخارج، سحب الجندي المكلف بالحراسة على منزل الشيخ حسن البنا، اعتقال أخ الشيخ البنا “عبد الباسط” الذي أحس بالمؤامرة على أخيه حسن البنا وجاء ليحرسه، سحب السيارة الخاصة بالشيخ حسن البنا وكانت ملك صهره عبد الحكيم عابدين، عدم السماح له بمغادرة القاهرة أو السفر إلى أي مكان، شغله بالمفاوضات مع الحكومة.
وفي الفترة القصيرة التي تلت اغتيال النقراشي حتى تولي غيره، يقول حسن يوسف- رئيس الديوان بالنيابة- إنه بعد أن لفظ النقراشي أنفاسه الأخيرة رأس الملك اجتماعًا أمر فيه بتعيين إبراهيم عبد الهادي رئيسًا للوزارة لكي يتابع سياسة سلفه. ولم يختلف عبد الهادي في شيء في التعامل مع الإخوان، وإن كان أكثر قسوة، فتم إعلان حالة الطوارئ، وفرض الأحكام العرفية، كما تم اعتقال عدد كبير من جماعة الإخوان المسلمين التي اتُهمت باغتيال النقراشي، وكان الشيخ حسن البنا هو مرشد جماعة الإخوان في ذلك الوقت. وكان حسن البنا يعمل مدرسًا وتمكن من خلال اتجاهه الديني أن يجمع الناس حوله، مما جعله يتمتع بزعامة كاريزمية بين جماعته. أثار نشاطه مخاوف السلطة الحاكمة، فقامت بنقله للعمل في إحدى مدارس محافظة قنا، مما أثار غضب محبيه والمتعاطفين معه من نواب الشعب، وتحت ضغط منهم تمت عودته إلى التدريس بالقاهرة مرة أخرى.
ترددت في وثائق التحقيق أنه في جنازة النقراشي كانت تتردد عبارات تشير إلي ضرورة الانتقام من الإخوان المسلمين، وكان السعديون بوجه خاص يعبرون عن غضبهم بكلمات مثل “الانتقام الانتقام، والدم بالدم”، وكانوا يتصايحون بصراحة بقتل حسن البنا. فلقد أعلن الشباب السعديون صراحة أن الشيخ البنا اغتيل انتقامًا لمقتل النقراشي باشا، وأعلنوا أيضًا أن حدادهم على النقراشي قد انتهى بعد الثأر له فخلعوا أربطة العنق السوداء التي ارتدوها بعد مصرع النقراشي وارتدوا أربطة عنق حمراء بدلاً منها.
ويقول عبد الكريم منصور زوج شقيقة حسن البنا في التحقيقات التي أجريت بعد ذلك:
“إن حسن البنا اتهم مدير مكتب وزير الداخلية وهو محمد كامل الدماطي بأنه كون عصابة من سبعة أفراد أقسموا جميعاً ليقتلوا الشيخ حسن البنا تأثرًا لمقتل النقراشي باشا”.
ويذكر أحد رجال الحكومة أنه حضر مجلسًا ضم عبد الرحمن عمار (وكيل وزارة الداخلية)، وآخرين بمجلس الوزراء بادر عمار فيه اللواء أحمد طلعت بأقوال وتلميحات فهم منها اللواء أحمد طلعت أن عمار كان “يريد أن يوحي إليه بأن من المصلحة قتل حسن البنا”، وهو ما تكرر كثيرًا في المحاضر والاجتماعات التي شارك فيها ضباط وزارة الداخلية.
وأوراق التحقيق في هذه الفترة تزخر بهذا السيناريو الذي شارك فيه عدد كبير من رجال الداخلية من أرفع الدرجات والتي توضح كيف دبر مدير مكتب وزير الداخلية الجريمة، وكان هو محمد كامل الدماطي، ثم لعب فيها أدوارًا ثابتة رجال عديدون بدءًا من عبد الرحمن عمار (وكيل وزارة الداخلية) وصولاً إلي مصطفي محمد أبو الليل وهو مجرم جاء خصيصًا من طما بإيعاز رجال القلم السياسي لتنفيذ الجريمة مرورًا بالبكباشي محمد وصفي (رئيس حرس الوزارات)، ومحمود عبد المجيد (مدير إدارة المباحث الجنائية)، وتوفيق السعيد (وكيل الوزارة)، وإسماعيل أبو ذكري (مفتش الداخلية)، وأحمد طلعت (رئيس القسم السياسي) وغيرهم كثيرين.
كانت الأدلة ضد قتلة حسن البنا واضحة، ورغم ذلك فإن التحقيق في مصرع المرشد العام لم ينته إلي شيء طوال تسعة شهور.
لم يكن المقصود من هذا حادث محاولة الاعتداء علي حامد جوده الذي وقع في 6 مايو 1949، هو حامد جوده -رئيس مجلس النواب – بل كان المقصود إبراهيم عبد الهادي ، ولكن هذا تخلف عن موعده، ومر حامد جوده فألقيت علي سيارته قنبلة وهو يمر عند جامع عمرو، ولكنها لم تصبه. وفي أثناء نظر هذه القضية أمام المحكمة العسكرية الثانية طلب عبد المجيد نافع محامي المتهمين ضم قضية حسن البنا ملف قضية اغتيال حسن البنا، فكان هذا هو أول تحريك للقضية.
وفجأة طويت أوراق التحقيق.
ولن يتم فتحها إلا بعد قيام ثورة يوليو 1952 وهذا هو موضوع الحلقة الثالثة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.