بأيدى مجموعة من فنانى الجرافيت تصاحبهم فرقة حسب الله السادس عشر واجه الشعب المصرى تلك الجدران الخرسانية التى زرعها الأمن فى شوارع العاصمة كأنها تفصل بين مشاعر وقلوب المصريين والمصريين.. الغرض المعلن هو بالطبع تأمين وزارة الداخلية، إلا أن الحقيقة وراء كل ذلك هى أنهم يحاولون أن يقيموا جبالا من الأسمنت المسلح تحول دون أن تتوحد قلوب الناس فى التعبير عن آرائهم، فلجؤوا إلى تلك الحيلة الخائبة. عبقرية الشعب المصرى أنه يستطيع أن يعلو فوق كل الحواجز، لا يكتفى فقط بالقفز فوقها، لكنه يقتلها بالسخرية التى تصبح فى أحيان كثيرة أمضى تأثيرا من كل الأسلحة الفتاكة، وعندما تتابع «النت» تكتشف كيف أن هذا الشعب لديه أسلحته الفتاكة التى لا تُقهر. المجلس العسكرى لا يتوانى لحظة فى استخدام كل الوسائل للبقاء على رأس السلطة وإعادة الصورة إلى ما كانت عليه قبل 25 يناير، هم كانوا لا يريدون توريثا للحكم، ولقد تحقق هدفهم، ويعتقدون أن هذا هو السقف الذى ينبغى أن لا تتجاوزه الثورة. الوسيلة هى تدجين المصريين، ولهذا فهم حريصون على أن لا يواجهوا انفلات الأمن فى الشارع حتى يظل المواطن يشعر بأن التهديد يحيطه من كل جانب، وتصدَّر إليه تلك المقولة بأن هذا هو ما جناه من الثورة التى لم تأتِ إلا بما يعكر صفوه ويقطع رزقه. المصرى لديه مقياس آخر هم لم يدركوه، فهو بمشاعره انحاز منذ اللحظة الأولى إلى الثورة، وما يراه ليس بالتأكيد قَناعات الثورة بل هو الألغام التى يحاولون زرعها على الطريق ليصبح كل شىء فى نهاية الأمر ممهدا لبقاء المجلس العسكرى بعد أن يشعر المصريون بالخوف يحيط بهم. إلا أن الوجه الآخر للصورة هو أن على من يصدر القرار أن لا يستهين بوسائل دفاع الآخر ولو كانت تبدو أحيانا عند البعض لا متناهية الصغر، إلا أنها تملك قوة سحرية. سوف أنعش ذاكرتكم بفيلم لفرانسوا تريفو، أحد أعمدة الموجة الجيدة التى ظهرت فى فرنسا فى الخمسينيات. قدّم تريفو فيلمه الشهير «451 فهرنهايت» فى مطلع الستينيات. اختيار الرقم هنا ليس اعتباطا، لكنها درجة حرارة احتراق الكتب، لأن الفيلم مأخوذ عن رواية أمريكية كتبها راى براديرى الذى كان واقعا تحت سطوة ما كان يُعرف ب«المكارثية» التى عانى منها المجتمع الأمريكى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتقسيم العالم إلى كتلتين غربية وشرقية، وكان الاتهام الجاهز فى أمريكا مع بداية الحرب الباردة هو أن فلانا لديه ميول شيوعية، وهو ما عانى منه مثلا شارلى شابلن الإنجليزى المولد، ثم وجد نفسه واقعا تحت نيران هذا الاتهام. والرواية تتجاوز ذلك البعد الزمنى، وصارت تحمل إدانة لكل أنظمة الحكم الشمولى المعادى بالضرورة للثقافة، فيقرر النظام أن يحرق الكتب. فوجئوا بأن البشر قاوموا النيران بعد أن تحول كل منهم إلى كتاب يتحرك على قدمين. صاروا هم الذاكرة الأبدية التى لا يمكن إحراقها، وكل منهم يحمل اسم الكتاب ويلقنه للآخرين: هذا «روميو وجولييت» لشكسبير، وذاك «الحرب والسلام» لتولستوى... وهكذا دارت المعركة.. ذاكرة الناس أصبحت تمثِّل الضوء الكاشف لكل أوجه القهر والقبح.. الجنرال ديجول فى أثناء الغزو الألمانى فى الحرب العالمية الثانية قال فى كلمته للشعب الفرنسى: «لا يهم حجم الدمار»، أراد فقط أن يطمئن على التعليم والقضاء والخيال، وعندما أجابوه أنها بخير قال: «إذن فرنسا بخير». ما حدث فى وسط المدينة هو أن الناس بالحفر والرسم على الجدران بعثوا برسالة مفادها أن خيال المصريين بخير، وأن أعينهم تستطيع أن ترى ما هو أبعد.. درجة الحرارة التى يتم من خلالها حرق هذه الجدران تصل إلى 1500 فهرنهايت، وإبداع المصريين الممزوج بمشاعرهم الوطنية هو الذى اخترق الصخور.. لا تنسَ أن الخيال المصرى هو الذى قهر خط بارليف المنيع عندما أطلقوا عليه بحيلة بسيطة مضخات الماء. الشعوب تُقمع فقط عندما يموت الخيال.. لو وجد الإنسان أمامه جدارا عازلا فسوف يحاول تحطيمه، وعندما يعجز عن تحقيق ذلك فسوف يتعايش مع الأمر الواقع، لكن إرادة التحدى هى التى أطلقت هؤلاء المبدعين ليواجهوا القهر بالريشة والإزميل ويحطموا الخرسانة المسلحة على أنغام فرقة «حسب الله السادس عشر»!