لا يزال عنصر المكان يمثل لدي العديد من المهمومين بالإبداع الأدبي جانبًا مهما، يلعب دورا فاعلاً في إلهام وبعث كوامن النفس، بل قد يحمل دلالة واعية لعدد من المفاهيم الاجتماعية والسياسية التي تمثل بعدًا تاريخياً أو دينياً؛ حيث يشكل مساحة تؤكد تيارًا فكريا يتجذر في كيان المبدع الذي يسعي إلي تحقيق ذاته في عالم قد يشعر فيه بأنه غريب أو مغرب بفعل البعد الاجتماعي، وقد يعود هذا إلي تكوين المبدع من مولده ومروره بدلالات تتمثل في انطباعه لما يحيط به من دلالات مكانية. ويتبدي هذا العنصر في إبداعات نجيب محفوظ، والذي يقول: "منذ مولدي في حي الحسين، وهذا المكان يسكن وجداني، حيث إنني حين أسير فيه أشعر بنشوة غريبة أشبه بنشوة العشاق، وفي فترة الإجازة الصيفية أيام المدرسة والتلمذة كنت أقضي السهرة مع أصحابي في الحسين، ونقلت عدوي الحب لهذا الحي إلي أصدقائي، فتحت أي ظرف لابد أن تكون السهرة في الحسين".. لتتبدي تأثيرات المكان في أغلب أعماله؛ فنراه يسعي إلي رؤي واقعية تجسد مشكلات الحارة المصرية، وفي الوقت ذاته تعبر عن همومهم وتطلعاتهم، حتي كانت إحدي رواياته تجسيدًا لتك اللغة ومستوي الحوار وصدق البعد الاجتماعي مغلفًا برؤي فلسفية متعمقة. حيث كانت دراسته للفلسفة تنعكس علي أعماله الإبداعية علي المستوي الحواري، وفي هذا السياق كان يقول: "قرأت "الحرب والسلام" لتولستوي، و"الجريمة والعقاب" لدستويفسكي، والقصة القصيرة لتشيكوف وموباسان، كما قرأت لكافكا وبروست وجويس.. وأحببت شكسبير؛ بسخريته وفخامته، كذلك أحببت يوجين يونيل وإبسن وسترندربرج وعشقت موبي ديك لميلفيل، وغيرهم.. فلم أتأثر بكاتب واحد بل أسهم هؤلاء كلهم في تكويني الأدبي". إلا أن الصبغة التأثيرية التي سيطرت علي أعمال محفوظ الإبداعية لم يتأثر بإبداع فرد ما، أو إنتاج مبدع ما، بل إن المكان هو ما كان يشغل فكره ووجدانه، لتظهر أهمية الخطاب الروائي الأيديولوجي حينما تنبعث رائحة الجمَّالية، وحي الحسين، وخان الخليلي، وزقاق المدق، خاصة الثلاثية التي شكلت مساحة مهمة في واقعية أدبه، والتي تمثل فترة تاريخية في التاريخ المصري؛ حيث كانت الشخصيات تعبر عن الصراعات القائمة بين تيار الوطنية الذي يحاول كسر قيد الاحتلال خلال المظاهرات بقيادة الزعيم سعد زغلول، ليسطر أنصع الصفحات في الحياة السياسية والكفاح المصري المستمر. وعن تلك الفترة، يضيف محفوظ: "كانت ثورة 19 تمثل مجموعة من الناس يتجمعون ويهتفون ويهجمون علي بعض المنشآت، وكنت أري الخيالة الإنجليزية في أيديهم البنادق التي يطلقونها علي المصريين.. ومازلت أري هذه الصورة واضحة في مخيلتي منذ سن السابعة". ليتراءي أثر العقل الباطن، في تشكيل خلفية محفوظ الإبداعية، التي أصبحت مستودعًا للأحداث التي كانت تمر عبر مراحل التطور السني له، والتي انخرطت بشكل مباشر في الحارة المصرية متلاحما مع صدي هذه الأحداث أو مشاركا فيها، فكان يعود من آن لآخر لهذه الفترة يستلهم أو يستمد منها نسيج الأحداث التي شكلت انتشارًا واسعًا لأعماله الإبداعية. وفي العام 1945 اتجه محفوظ إلي حي الأزهر الشريف فاتخذه مسرحا لروايتين متتاليتين هما: "خان الخليلي"، و"زقاق المدق"، وكان تأثره بالمكان في هذه المنطقة واضحًا في شهرة كل من المعلمين. حيث نجح في نقل الصورة الحية لجو الحي والتي أضحت خالدة في ذاكرة الإبداع. لتبرق خصوصية المكان في أحداث أعماله الروائية، وكذا أهمية توظيف هذا العنصر بما ينتجه من أشخاص يتحاورون وليصنعوا عالمًا يخصهم تتجسد فيه عاداتهم.. فالتماسك الأسري الذي ترجمه محفوظ من خلال علاقته مع عائلته، والزيارات التي تؤكد المودة بشكل تفقده المدنية والأحياء الراقية، باتت تيمة أساسية في إبداعاته. حتي بات عنصر المكان ذا دلالة واعية لجغرافية الحي من مقهي، وصالون الحلاقة، ومحل البقالة، ومكان المكوجي، والبيوت التي تعلوها المشربيات، والمساجد، والمآذن، والميادين والحارات.. كل هذه المظاهر كانت تشكل في خلفية محفوظ الإبداعية جزءًا كبيرًا ليسطر ببراعة فائقة الأحداث عبر أعماله من لحم ودم.