تتميز رؤية مفكرنا الراحل الدكتور عاطف العراقى بما يمكن أن نطلق عليه الاتجاه العقلى النقدى التنويرى، والعقل كما يُعرفه ابن منظور فى لسان العرب: «هو الحجر والنهى ضد الحمق، والجمع عقول، وهو التثبت فى الأمور»، والنقد فى موسوعة «لالاند» الفلسفية: «هو فحص مبدأ أو ظاهرة، للحكم عليه أو عليها حكما تقويميا تقريريا»، و«تقال نقدية على كل عقيدة ترى أن العقل يشكل المعرفة، ويكونها بمقتضى أشكال أو مقولات خاصة به». أما مصطلح «التنوير» فيرجع إلى الفيلسوف الألمانى كَانت، وقد استخدمه للتعبير عن الحركة العقلية التى بدأت فى أوروبا فى القرن السابع عشر، وبلغت أوجها فى القرن الثامن عشر، ويتميز هذا الاتجاه التنويرى بثلاثة ملامح أساسية: الاعتداد بالعقل، والاستفادة من التقدم العلمى، والاهتمام بحقوق الإنسان. وهذه هى خلاصة مفهوم التنوير، ورغم أنه يتعلق بمرحلة من مراحل تطور الحضارة الأوروبية، فإنه لا يوجد ما يمنعنا من اقتباسه طالما نحتاج إليه لكى يثرى فكرنا العربى. وفى كتاب أستاذنا «العقل والتنوير فى الفكر العربى المعاصر»، كتب ما يلى: «إننا الآن فى حالة غريبة من الغيبوبة، والعالم يتحرك من حولنا حركة سريعة، حركة بغير حدود، إننا فى الوقت الذى نصعد فيه إلى الهاوية، ويكون الحوار بيننا أقرب إلى إثارة الخلافات اللفظية الشكلية، بل أقرب إلى ثرثرة النساء، نجد الدول المتقدمة، وخاصة الدول الغربية تبادر إلى اتخاذ المواقف البناءة». ثم يضيف ملاحظة ثاقبة عن طبيعة الحركة فى مجتمعاتنا العربية، إذ يقول: «كنا نجد رؤية تنويرية فى بعض بلدان عالمنا العربى حتى بداية النصف الثانى من القرن العشرين، ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟ نجد نوعا من الردة، أو التراجع عن المكاسب التنويرية فى العديد من المجالات، سواء كانت سياسية، أو فكرية، أو اجتماعية. نجد تراجعا فى مجال حرية الفرد، واتجاها نحو نوع من الديكتاتورية الفكرية الرجعية». وهذه الديكتاتورية الفكرية ما هى إلا انعكاس للديكتاتورية السياسية، فشعوبنا العربية تعانى أشد المعاناة تحت نظم حكم ديكتاتورية عسكرية، وقبلية سلطوية تعيق حركة شعوبنا المتطلعة إلى الحرية والتقدم. ولذلك تفاعل مفكرنا الكبير مع الثورة المصرية، وأيدها كثيرا فى كتاباته الرصينة، وفى أحاديثه الصحفية والإذاعية. فقد رأى فى ثورتنا الروح المصرية الأصيلة حين تتجلى رافضة الظلم والقهر والطغيان، كما أنها تعد تعبيرا عن شوقنا القديم إلى الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. ولكى يخرج عالمنا العربى من مستنقع التخلف الذى طال مكوثنا فيه، لا بد من ثورة فكرية شاملة، ثورة ثقافية بمعناها الواسع تعيد تشكيل العقل العربى، وتخلصه من أفكار بالية ما زالت مسيطرة عليه، وحتى تحلق بنا الثقافة العربية، نحو الحضارة والرقى والتقدم، لا بد أن تستعين بجناحين، الأول: يستند على كل ما يمكن أن يفيدنا من تراثنا العظيم، والآخر: يستفيد من كل منجزات الثقافة العالمية.