فى موسوعة لالاند الفلسفية تعريف للنقد بأنه «فحص مبدأ أو ظاهرة، للحكم عليه أو عليها حكما تقويميا، تقريريا» ومن ثم يعد الجانب النقدى عند أى فيلسوف من أهم ملامح فكره، إذ يعبر عن أصالته الخاصة حال نقده لما سبق أن تعلمه، فى مراحل التلقى، ثم عند نقده -بعد ذلك- للأفكار السائدة فى عصره. وإذا كان الفكر الفلسفى قائما على بناء الأنساق الفكرية، إلا أن له جانبا آخر، لا يقل أهمية، وهو جانب النقد لكل الأفكار والمفاهيم والتصورات الفكرية السابقة عليه، والمعاصرة له. ومن هنا كانت العلاقة بين الجانب النقدى، والتجربة الروحية علاقة وثيقة جدا. فقبل أن يخوض الإنسان غمار تجربة التصوف، لا بد أن يكون قد قام بدوره النقدى أولا، وإلا فلماذا يختار طريق التصوف لو أن هناك طريقا آخر يمكن أن يشبعه؟ فمن يبدأ فى هذا الطريق الطويل، يحسن به أن يكون قد خبر الحياة الدنيا، ونقد بدقة وعمق أهم ما فيها، ووقف على ما يجب التوقف أمامه، وما يجب التجاوز عنه، من مظاهر هذه الحياة البراقة الخادعة. كما يقول الحلاج فى كتاب «الطواسين»: «فلما قضى موسى الأجل ترك الأهل حين صار للحقيقة أهلاً». ونظرة الإنسان النقدية لا يجب أن تتجه إلى العالم الخارجى فقط، فمن يتوجه نحو الطريق الروحى، لا بد أن يتابع باستمرار نقده الذاتى، حتى يتمكن من التصحيح المتتابع لموقفه الداخلى. والأمر لا يتوقف على الأفعال والأقوال فحسب، بل يشمل أيضا الأفكار والخواطر، وحتى الأحلام! وقد قال تعالى: «ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله» (الروم 23). فذكر المنام دون اليقظة فى حال الدنيا، فدل بذلك على أن اليقظة الحقيقية لا تكون إلا عند الموت، وأن الإنسان نائم أبدا ما لم يمت! إذ ذكر أنه فى منام بالليل والنهار، فى يقظته ونومه. وفى الخبر: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» فالحياة الدنيا تبدو حلما كبيرا يجب تأويله أولا ثم التعامل معه بالطريقة المناسبة. فالعالم كله، لا تصح فيه إقامة، إذ هو عابر أبدا مع الأنفاس! والعلماء بالله يشاهدون هذا العبور، وغيرهم يتخيلون أنهم مقيمون. بينما حقيقة وجودنا فى هذا العالم أقرب إلى الخيال العابر منه إلى الحقيقة الثابتة. ففى أى لحظة يمكن أن يختفى هذا الذى كان! وهنا يقول الشيخ الأكبر ابن عربى: «أما حان لنا أن ننظر إلى سهام المنية، كيف أصابت قراطيس البرية، ولا بد لقرطاسنا من سهمها، ولا بد لأنفسنا من يومها»، ولذلك قال أبو يزيد البسطامى: «اطلعت على الخلق، فرأيتهم موتى، فكبرت عليهم أربع تكبيرات». ومن يدرك هذه الحقيقة بوعى كامل، يتغير داخله، ويراعى وقته، وتتركز نظرته النقدية على العلاقة بين حركة الزمن، ونمو مراحل تكامله الروحى. حتى يصل إلى مستوى «رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله» (النور 37).