كان قد ألقى محاضرته صباحا فى كلية الأداب جامعة القاهرة، ثم ألقى محاضرته الأخرى عصرا فى معهد الدراسات الإسلامية، وبمجرد غروب شمس آخر يوم فى شهر فبراير 2012، وقبل أن يترك محرابه، رحل عن عالمنا أستاذى الجليل المفكر الكبير الدكتور عاطف العراقى. هذه كلمات مفكرنا العظيم الدكتور فؤاد زكريا: «يحتل الدكتور العراقى مركزا متميزا بين أساتذة الفلسفة فى مصر، فهو يتسم بقدر كبير من الوفاء والولاء تجاه جيل الأساتذة الذين نهل عنهم العلم. وقد عبر عن هذا الوفاء بصورة ملموسة تشهد بإخلاصه لهم، وصدق نياته إزاءهم فى ذلك العدد الكبير من الكتب التذكارية التى أشرف عليها، وكان له فضل السبق فى اقتراحها على الجهات المسؤولة. ولست أعتقد أن أى أستاذ آخر فى أى حقل من حقول العلوم الإنسانية قد أشرف على إصدار عدد من الكتب التذكارية عن الأعلام فى ميدانه، يقترب من عدد الكتب التى تعهدها الدكتور عاطف منذ أن كانت فكرة نبيلة فى رأسه حتى خرجت من المطبعة فى أكمل صورة. وعلى الجانب الآخر، فقد عبر الدكتور العراقى عن وفاء وإخلاص مماثل تجاه تلاميذه من المتخصصين فى الفلسفة، فأنا لا أعتقد أن أى أستاذ آخر فى أى حقل من حقول الدراسات الإنسانية قد زود الجامعات المصرية بعدد من الحاصلين على درجة الدكتوراه يقترب من عدد الدارسين الذين رعاهم الدكتور عاطف وتعهدهم بعنايته حتى حصلوا على درجة الدكتوراه، ولكن رعايته لا تقف عند هذا الحد، فهو يتابعهم متابعة الأب أو الأخ الأكبر الحنون حتى يطمئن إلى أنهم قد احتلوا الموقع الملائم لهم فى الجامعات المصرية. وبعبارة أخرى فإن فى الجامعات المصرية عددا من أعضاء هيئة التدريس من تلاميذ الدكتور العراقى، يفوق عدد مَن تلقوا العلم على يد أى أستاذ آخر من جيل الأساتذة الأحياء. وأخشى أن يأخذ القارئ انطباعا من تأكيدى وفرة العدد فى الحالتين حالة علاقة الدكتور العراقى بجيل أساتذته، وحالة علاقته بجيل تلاميذه الذين أصبح بعضهم الآن أساتذة بدورهم، أخشى أن يأخذ القارئ انطباعا بأن الكم وحده هو الهدف الذى يسعى إليه الدكتور عاطف، سواء فى علاقته بأساتذته أو تلاميذه، ولكن حقيقة الأمر أن الدكتور العراقى يحرص فى كلتا الحالتين على التزام قيم ومبادئ لا يحيد عنها، وعلى رأس هذه القيم والمبادئ تأتى فكرة التنوير التى اتخذ منها نبراسا لجهوده وأعماله الجليلة فى ميدان الفلسفة العربية. فقد اختار الدكتور العراقى أن ينحاز فى دراسته للفلسفة العربية إلى جانب التراث العقلانى الذى يتجنب تهويمات الإشراقيين، ويتخلص من هلامية الصوفية. وقد تجسد هذا الالتزام بقيم العقل والتنوير فى ذلك الجهد الكبير الذى بذله من أجل إلقاء الضوء على فلسفة ابن رشد أعظم الفلاسفة العقلانيين من العرب. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الدكتور العراقى يوجه كثيرا من تلاميذه فى الدراسات العليا نحو دراسة جوانب معينة من فلسفة ابن رشد، أمكننا أن نقول إن الدكتور العراقى قد أخذ على عاتقه مهمة إحياء تعاليم ابن رشد فى عصر تتعرض فيه عقلانية ابن رشد واستنارته للأخطار من كل جانب».