«جاء يكحلها عماها» مثل شعبى شهير ينطبق على وزارة العدالة الانتقالية التى أعدت قانونًا لإنهاء التمييز فى المجتمع، فقننته وجعلته مشروعًا، القانون ملىء بالعيوب بداية من اسمه، فقد كنت أتمنى أن يكون القانون تحت مسمى قانون «المساواة وتجريم التمييز»، لا قانون «المساواة ومنع التمييز»، والفرق كبير بين المنع فقط، والمنع مع تجريم الفعل، مواد القانون تخلو من نص يجرم عملية التمييز ويعاقب من يقوم به، وهو أمر يخالف الدستور الذى نص فى المادة «53» على أن «التمييز والحض على الكراهية جريمة يعاقب عليها القانون»، لكن وزارة العدالة الانتقالية أغفلت هذا الأمر المهم، وكأنها تساعد مَن يتعمد ارتكاب التمييز وطمأنته أنه لا يوجد عقاب رادع، زاد صناع القانون الطين بلة عندما وضعوا مادة تنص على «التمييز غير المبرر محظور، ويعتبر تمييزا كل عمل أو سلوك أو إرجاء من شأنه التفرقة بين المواطنين دون أسباب موضوعية لا تتطلبها طبيعة العمل»، وهى بهذا تفتح بابًا خلفيا للتمييز من خلال عبارتى «التمييز غير المبرر»، و«دون أسباب موضوعية»، اللتين سيتم استخدامهما لتفريغ القانون من مضمونه، فما أكثر التبريرات لمن يريد منع الحقوق عن أصحابها، مثلا المرأة لا تصلح لهذا العمل، لأنه لا يناسب طبيعتها، وأيضا بناء كنيسة فى هذا المكان محظور لأنه قد يتسبب فى فتنة طائفية، وأبناء البسطاء لا يصلحون لوظائف بعينها لأنها لها طبيعة خاصة، وبهذا يتم تقنين التمييز بدلا من منعه، لقد نصَّ مشروع القانون أيضًا على إنشاء مفوضية «المساواة ومنع التمييز»، وأعطى لها صلاحيات تلقى الشكاوى من المواطنين والتحقيق فيها، ومعالجة الوضع إذا ثبت صحته، لكن القانون لم يمنح لهذه المفوضية أى سلطة تمكنها من الاطلاع على المستندات والأوراق التى تكفل لها التحقق من جدية الشكوى، وكما أنه لا توجد عقوبة على الجهات التى تمتنع عن التعاون مع المفوضية، أيضا لا يلزم القانون مؤسسات الدولة بتعيين من رفضتهم بسبب التمييز، مثلا رفض المجلس الأعلى للقضاء تعيين بعض المتفوقين فى كليات الحقوق فى منصب وكيل النيابة، بحجة أن آباءهم لم يحصلوا على مؤهل عال، وهو تمييز لا مبرر موضوعيا له، إذ لا توجد علاقة بين الصلاحية لمناصب القضاء وحصول الأب على مؤهل عالٍ، والأخطر أن يصرح نائب رئيس محكمة النقض فى أحد البرامج التليفزيونية بأن ابن عامل النظافة لا يصلح لدخول سلك النيابة والقضاء، وهو تمييز بسبب الوضع الاجتماعى، فهل تستطيع المفوضية إنهاء هذا الوضع الشائن ومنح أبناء الفلاحين والعمال والبسطاء حقهم فى الالتحاق بالوظائف القضائية؟ وماذا لو رفض المجلس الأعلى للقضاء الانصياع للمفوضية وأصر على موقفه الرافض لهؤلاء المظلومين؟ ماذا ستفعل المفوضية فى هذه الحالة هل تستطيع إجبار مجلس القضاء على عدل الميزان المائل؟ وماذا عن باقى الوظائف المميزة فى قطاعات مثل البنوك والبترول والاتصالات والكهرباء والبورصة، التى يحصل عليها أبناء الأثرياء وممنوع على الفقراء الاقتراب منها، وهى وظائف تتم فى السر ودون إعلان عنها، وإذا تم الإعلان فهى محجوزة مسبقا للمحظوظين، إذ لا توجد قواعد حاكمة للاختيار، وإذا تمت اختبارات فإنها تكون شكلية، فهل توقف المفوضية ظاهرة التعيينات السرية فى هذه القطاعات، وتمنع أيضًا توظيف أبناء العاملين فى الجهات التى يعمل فيها آباؤهم، وهى ميزة لا تتوفر لغيرهم، وهل يمكن أن تكون الكفاءة هى المعيار الأساسى عند التعيين؟ لقد سألت الفقيه القانونى الكبير د.نور فرحات عن رأيه فى هذا القانون، فقال لى إنه ملىء بالعيوب والثغرات واقترح قانونا بديلا من ثلاث مواد هى: 1- «يعد تمييزا فى حكم هذا القانون كل فعل يصدر عن ممثل الشخص الاعتبارى أو الخاص أو صاحب العمل، يهدف أو يكون من شأنه حرمان شخص من ميزة يقررها القانون أو سلب حق من حقوقه أو إيقاع الأذى به، لسبب مرجعه التفرقة بسبب الدين أو العقيدة أو الجنس أو العرق أو المكانة الاقتصادية أو الاجتماعية أو الإعاقة أو غير ذلك من الأسباب التى يقرها القانون». 2- «يعتبر باطلا بطلانا مطلقا كل قرار أو تصرف أو عمل أو امتناع يمثل تمييزا مما هو منصوص عليه فى المادة السابقة». 3- «يعاقب ممثل الشخص المعنوى إذا قام بالتمييز بين المواطنين بسبب أو مناسبة وظيفته مع علمه بذلك بالحبس أو الغرامة التى لا تقل عن أربعين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين أو بالعزل من الوظيفة، فإذا وقعت الجريمة من ممثل الشخص المعنوى الخاص أو صاحب العمل تكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر، وبغرامة لا تزيد على عشرين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين». فهل تراجع وزارة العدالة الانتقالية نفسها وتعيد صياغة القانون وتسد ما به من ثغرات وتستمع إلى آراء فقهاء القانون وتضع اقتراحاتهم نصب عينيها؟ أم أنها تريد قانونا يتم ركنه على الرف ويفتح الباب لاستمرار التمييز فى المجتمع؟