فى ظل هذا الحجم الضخم من الأزمات التى تعيشها بلادنا، تبدو مصر منقسمة على نفسها كما لم تكن من قبل بين مَن ما زال يعتقد فى الحلول الثورية، ومن يعتقد فى الحلول السياسية، وآخرين يعتقدون بإمكانية إنتاج صيغة قريبة من ماضٍ لم يعد من المقبول ولا المعقول إعادة استنساخه من جديد. عاشت مصر عقودا طويلة وقواها الحية وطليعة التغيير فيها تحلم بدولة وطنية حديثة، تحقق لمواطنيها الرفاة والكرامة الإنسانية ككل شعوب الأرض، عندما لاحت بوادر دولة واعدة مع أسرة محمد على وظهور مطالب الشعب للعلن فى صيحة أحمد عرابى، الذى صدع بكلمة الشعب فى وجه الخديو قائلا: لقد خلقنا الله أحرارًا ولم يخلقنا تراثا أو عقارًا، ووالله الذى لا إله غيره لن نستعبد ولن نورث بعد اليوم، بدت مطالب الثورة العرابية هى ذات المطالب التى رفعها ثوار يوليو فى ما بعد، والغريب أنها ما زالت نفس مطالب ثورة 25 يناير، ألا يدعونا ذلك إلى تأمل هذا المسار الثورى الذى بدأ مع عرابى وامتد إلى ثورة 1919 التى انتقلت بسرعة إلى مسار السياسة مع سعد زغلول، ثم انتقلت مع عبد الناصر إلى حكم شمولى تصور أنه من خلاله يستطيع إنجاز تجربة التحديث، مؤجلا الحديث عن الديمقراطية التى لم تكن مطلبا شعبيا جارفًا مقارنة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لإنسان مصرى بدا على هامش كل الأنظمة التى حكمته مجردا من أبسط حقوقه، ثم وصولا إلى دولة السادات ومبارك التى أعادت تسكين مصر فى قاع الجحيم والهوان، بعد أن خلعت ملابس عزتها فى الإقليم فمصر التى هزمتها إسرائيل مرتين فى عهد ناصر، كانت أوفر عزة وكرامة من مصر التى انتصرت فى حرب أكتوبر التى بددت ثمراتها كامب ديفيد، التى دشنت لسقوط طال للدولة المصرية فى كل النواحى، ماذا حققت لنا الثورات بدءًا من عرابى إلى سعد زغلول إلى جمال عبد الناصر؟ حققت حكما شموليا احتل فيه الجيش الصدارة، وقدم وفق طاقته التى هى أقل بطبيعة الحال من مهمة حكم مصر، فلن نخترع العجلة، الدولة فى النهاية دولة مؤسسات، مؤسسة تحكم هى السلطة التنفيذية، والجيش والشرطة ذراعٌ تنفيذية الأول يحمى الحدود والثانى يحمى الأمن الداخلى، فكيف اتسعت بقعة الجهازين على ثوب البلاد إلى الحد الذى أخفى باقى سلطات الدولة، سواء السلطة التشريعية التى من المفترض أن تبقى هى التجسيد الحى لسيادة الشعب، أو السلطة القضائية التى ينبغى أن تبقى مستقلة عن السلطتين وحكما بينهما فى بعض الأحيان، هذا واقع مصر كدولة قادتها نخبة عسكرية منذ نشأتها منذ قرنين وحتى اليوم، ما حاولت أن تفعله ثورة يناير ببراءة وخيال شباب مخلص لفكرة دولة حقيقية، هو دفعها لأن تكون دولة مؤسسات بحق تلتزم كل مؤسسة فيها بحقوقها وواجباتها فى احترام حدود فصلها الدستور، هذه الدولة المترهلة التى ثار عليها الشعب فى يناير كانت كأسد عجوز قابع فى عرينه، وعندما تقدمت له الثورة ناوشته وجرحته دون أن تقتله أو تأسره، فأطلقت الغضب من عقاله ليستحضر الأسد العجوز كل مهارات القنص والافتراس القديمة، فلا يفرق بين من جاء ينصحه أو يتوسط أو من جاء ليهاجمه، فامتدت أنيابه للجميع دون تمييز، هذا حال الدولة الآن مع أبنائها أيها الأسد العجوز لم تعد صالحًا لحكم تلك المملكة، لقد تغيرت أمور كثيرة فى العالم بحيث بدت مملكتك استثناء من كل دول العالم، ولم يعد الشباب بالذات قادرين على هضم ما هضمه أسلافهم، هم متمسكون بدولة وأنت ما زلت تطرح صيغة ضيعة أو عزبة تملك مقدَّراتها وتديرها أنت ومحاسيبك، لن يستقيم الأمر بهذه الطريقة وقاعدة الرافضين تتسع، من يحلمون بدولة هم متمسكون بها، ومن سئموا دولتك يتطلعون إلى دولة أخرى، وأنت بين فريقين فى رفض ما يجرى، فريق يرى التوسل بالسياسة سبيلا لتغيير قواعد اللعبة وهؤلاء يتراجع إيمانهم بمسارات السياسة، التى ضيقتها بالجنود المنتشرين فى الطرقات وبالحلول الأمنية التى لا تسعفك قريحتك بسواها، وفريق آخر هو الشباب الذين أطلقوا يناير وما زالوا قادرين على إطلاق موجات جديدة قد تكون أعتى، وهؤلاء ما زالوا يتأملون المشهد حتى يبددوا حيرتهم تجاه المعركة الدائرة بين الدولة والإخوان التى تشوش تفكيرهم ومن ثم خططهم وحركتهم، هم على أى حال غير مؤمنين لا بالنظام الحالى ولا بنظام الجماعة، هم مؤمنون بمصر أخرى، هؤلاء هم المستقبل الحقيقى لهذا البلد، والالتفات عنهم مغامرة بأمن هذا البلد وحقه فى الحياة، هؤلاء الملتحفون بالصمت الذى ليس بالمناسبة رضاءً أو تأييدًا، ليسوا ذلك الجيل الذى عرفتموه صامتا ملتحفا باليأس أو الإحباط والاستسلام للواقع، هذا جيل مختلف يصمت ليفكر ويدبر وكما فاجأ الجميع بثورة يناير، فهو يعلم أن شهور العام إثنا عشر شهرًا فلا تبالغوا فى حراسة يناير، فليسوا مولَعين بيناير على أى حال، فلم يكن سوى شهر صادف وثبتهم التى لا تحدّها شهور أو سنوات، إلى القابضين على جمر السلطة فى البلاد لن تستقيم الأمور سوى بكلمات مفتاحية، حددتها خارطة المستقبل وجعلتها أساس مشروعية النظام الجديد، العدالة الانتقالية والحوار الوطنى وتمكين الشباب من المشاركة فى التفكير والتدبير لبلاده، ليس على الطريقة المبتذلة التى تجعل جريدة معنية باحتضان الحوار مع الشباب، وأخرى معنية بالحوار مع القوى السياسية، منطق خليهم يتسلوا تعلمون ماذا فُعل بمصر، لماذا تكررون أخطاء الماضى؟ من حق مصر أن تمر إلى المستقبل ولن تمر سوى بأن تفتحوا عقولكم وقبلها قلوبكم لتأمل دروس الماضى القريب والبعيد، فالزمن لم يعد جزءًا من العلاج بل أضحى مشكلة حقيقية عليكم التعامل معها بجدية.