فى 11 نوفمبر 1944 صدر العدد الأول من جريدة «أخبار اليوم» الأسبوعية، وصدرت الجريدة وفقًا لحلم شابَّين توأم طموحين لخلق صحافة مصرية جديدة، الأول هو مصطفى أمين المحرر بصحيفة «الأهرام»، والثانى هو شقيقه التوأم على أمين الموظف بوزارة المالية، وكانت «أخبار اليوم» قبل صدورها حلما بعيد المنال لهذين الشابين، فقبل صدورها بإحدى عشرة سنة أرسل الشاب على أمين، الطالب بكلية الهندسة الميكانيكية فى جامعة شيفيلد بإنجلترا، لشقيقه مصطفى أمين الطالب بالجامعة الأمريكية فى القاهرة والمحرر الصغير بمجلة «روز اليوسف»، خطابا يشرح فيه فكرة إنشاء صحيفة كبرى وعظيمة، تستوعب أحلام وطموحات الصحفيين المصريين بجدارة، واقترح فى الرسالة أن يكون اسم الصحيفة «الزعيم»، وهذا الاسم ناتج من تأثر التوأم مصطفى وعلى أمين بنشأتهما فى منزل الزعيم سعد زغلول، ومن المدهش -كما يحكى مصطفى أمين فى العدد الألف من الجريدة- أن الغلاف الذى صممه على أمين فى خطابه، هو نفس الغلاف الذى صدرت به صحيفة «أخبار اليوم»، وكان تاريخ الخطاب هو 14 مارس 1933، وردّ عليه مصطفى أمين فَرِحًا وموافقا وسعيدا، وبعد كل هذه الأعوام من طرح الفكرة الحلمية، صدر العدد الأول. وفى تلك الفترة كانت وزارة التموين هى المهيمنة على ورق الطباعة، وذهب مصطفى أمين ليطلب حصته من الورق، وطلب رقما معينا من الأطنان، ولكن طه السباعى وزير التموين آنذاك، رفض هذا الرقم ولم يسمح له إلا بثمانية أطنان، على اعتبار أن هذا الرقم سيكفى الجريدة لمدة شهر، ولكن هذه الكمية استخدمت كلها فى طباعة العدد الأول، الذى فاق توزيعه كل التصورات عند المحررين والقرّاء والمؤسسين أنفسهم، إذ حققت بورصة الأرقام أعلى توزيع تاريخى للصحافة المصرية فى ذلك الوقت، وكان 110 آلاف نسخة، وكانت مجلة «مصر الحديثة» التى صدرت عام 1927 قد حققت 15 ألف نسخة، وهذا كان أعلى الأرقام توزيعا، ثم جاءت «آخر ساعة»، التى أسسها محمد التابعى فى 14 يوليو 1934، فحققت رقما كسر الرقم القديم وهو 17 ألف نسخة، ثم كانت صحيفة «أخبار اليوم» التى كسرت كل الأرقام السابقة، وظلت تحقق ذلك الرواج على مدى سنواتها السبعين. ورغم أن هذا الرقم أحدث نوعًا من الفرحة والسعادة للمحررين والكتاب وعمال المطبعة، فإن على أمين كان فى مأتم حقيقى، إذ إن الكمية التى كانت موجودة، لم تعد كذلك، ولم يبق فى المخازن فرخ ورق واحد لطباعة العدد الثانى، وذهب على أمين إلى وزير التموين لصرف كمية جديدة من الورق، فلم يوافق الوزير، وعاد على أمين واستصدر بيانا من شركة التوزيع، وعاد مرة أخرى إلى الوزير، وقال له: «كيف تصرفون حصة من الورق لبعض الصحف أكثر من طاقتها، وتفعلون العكس مع الصحف التى لا تكفى حصتها الشهرية طباعة عدد واحد؟»، وأبرز له على أمين أرقام التوزيع الهزيلة التى تحققها بعض الصحف، ورغم ذلك تصرف أحجاما عملاقة من الورق، ومنها صحيفة «الكتلة» التى ينتمى إليها الوزير نفسه، فقرر الوزير صرف الحصة المطلوبة، وقلّل من النسب المبالغ فيها مع الصحف الأخرى، وعلى رأسها صحيفة «الكتلة» نفسها. ومن يتصفح العدد الأول من الجريدة، سيكتشف الجهد الذى بلغه الأخوان على ومصطفى أمين فى إخراجه على الصورة التى أذهلت الجميع، وحققت هذا النجاح المذهل، فكانت الصفحة الأولى كلها تحتوى على المقال الافتتاحى لمصطفى أمين، وصورة كاريكاتورية للفنان رخا، أما الصفحة الثانية فكانت تحتوى على أخبار مترجمة قام بها نجيب كنعان وألبير عمون، أما الصفحة الثالثة فكانت عن المرأة بين الشباب بقلم السندباد البحرى على أمين، ومقال «حمارى يشتغل بالسياسة» لتوفيق الحكيم.. إلى آخر هذه الخلطة السحرية الجديدة، والتى شاركت فيها أسماء أدبية وصحفية كبيرة آنذاك. وبمناسبة الأسماء الصحفية والأدبية الكبيرة التى استقطبتها «أخبار اليوم» واتفقت معها على أجور باهظة بمقياس ذلك الوقت، فقد تقاضى توفيق الحكيم على مقاله فى العدد الأول جنيهين، وكذلك تقاضى أحمد الصاوى محمد الأجر ذاته على مقاله «ما قلَّ ودلَّ»، والذين تقاضوا فى ما بعد هذا الأجر عباس محمود العقاد والدكتور محمود عزمى ومكرم عبيد ومحمد توفيق دياب وغيرهم. وأقدمت الجريدة على صفقات صحفية ناجحة، منها المغامرة التى قام بها على أمين ومقابلة الكاتب والفيلسوف الأيرلندى، واستكتابه بشكل خاص للجريدة، كذلك الأديب «ه.ج.ويلز»، ونشر موضوعات عالمية فى الجريدة، جعل منها الصحيفة الأولى فى مصر والعالم العربى. تأسست الصحيفة فى شقة فوق سطوح إحدى عمارات شارع قصر العينى، لكن فى 11 نوفمبر قرر مصطفى أمين نقل الصحيفة إلى مكان غريب، تحيطه الزبالة من كل جانب، هذا المكان لم يكن إلا الشارع الذى هو شارع الصحافة الآن، وكان اسمه «شارع وابور النور»، وبعدما استقرت الجريدة بمحرريها يحمل على أمين حملة لتغيير اسم الشارع، ويتغير اسم الشارع، ولم يكن هناك شارع اسمه شارع الجلاء، بل كان طريقا يمر فيه القطار، ويعطّل الدنيا كلها، ولكن الصحيفة قادت حملة لنزع خطوط السكك الحديدية، وإطلاق الاسم الذى نعرفه الآن ب«شارع الجلاء»، وذلك استثمارا لجلاء الإنجليز عن مصر فى ذلك الوقت. وتكتب مى شاهين أقدم محررة فى «أخبار اليوم» مذكراتها فى كتابها الرائع «شارع الصحافة»، عن المأساة التى كانوا ينتظرونها بسبب نقلهم إلى هذا المكان المريع، أى شارع وابور المياه، فتقول: «كان هذا الشارع طريقًا مهملًا تطل على جانبيه الخرائب والعشش وصناديق الزبالة، ولم يكن هناك شارع اسمه شارع الجلاء، كان شارعا ضيقا يسير فيه قطار السكة الحديد الذى يصل بين قشلاق قصر النيل الإنجليزى، ومحطة العاصمة»، وتحكى مى شاهين رحلة الصحيفة بمغامرات محرريها ومؤسسيها لتصبح هذا الصرح العظيم الذى اسمه «أخبار اليوم»... كل عام وأنتِ فى حرية يا صاحبة الجلالة.