كتب محمد السيد سعيد عن نهاية مثقفى حركة التحرر الوطنى، لكن موقفه الفكرى كان يتسم بالقلق والتوتر بين الدور التاريخى لهذا النمط من المثقفين، لا سيما المثقف الطليعى، وبين التغير فى طبيعة دور المثقف –فى تاريخ التطور السياسى والثقافى– الذى عرفته التقاليد الليبرالية الفرنسية منذ قضية «درايفوس»، كما أشرنا سلفا، والأوروبية، وأيضا التقاليد المصرية وبعض العربية. بين المثقف ذى الرسالة الكبرى والمثقف منتج المعرفة والثقافة والمعنى، والذى يبدو مستقلا عن السياسة، وعن المنظومات الدينية والعرفية والقيمية الشائعة بين الجمهور فى مرحلة تاريخية ما، وتحاول بعض السلطات فرضها على المثقفين والباحثين والمفكرين. أتصوَّر أن محمد السيد سعيد ظل يراوح بين كلا النموذجين، وأتصور أنه انتصر نظريا لفكرته عن نهاية مثقف حركة التحرر الوطنى، لا سيما فى صورته الأيديولوجية السوقية الشائعة فى الدوائر والخلايا الحزبية السرية والعلنية، ولكنه عمليا لم يستطِع أن يبتعد كثيرا عن قضايا وهموم الغالبية الشعبية عموما، ولا القضايا الكبرى لأمته وبلاده حول تطورها، ومن ثمّ كان المدخل الحقوقى والإنسانى بالغ الأهمية فى كتاباته منذ نهاية الثمانينيات وما بعد، وكذلك انخراطه فى نقد السياسات والممارسات السلطوية المناهضة لحقوق الإنسان. يمكننا أن نضع فى هذا الإطار المكون الحقوقى الإنسانوى -بأجيال حقوق الإنسان على اختلافها- فى نطاق مقارباته للمشكلات البنيوية للتطور السياسى المصرى. أستطيع أن أشير هنا إلى كتابه التقديمى الوجيز عن حقوق الإنسان، ودراسته المتميزة فى نقد بعض الظواهر العملية فى الممارسة الأمنية، كما فى دراسته اللامعة عن الضابط الفتوة، والتى دفع ثمنها غاليا من حريته وسلامته الجسدية باعتقاله الذى أثار مصر المثقفة ومعها كثير فى أوروبا وأمريكا والمنطقة العربية، إذ تمت ممارسة ضغوط معنوية حاسمة فى الإفراج عنه وصحبه. موقف محمد النظرى والفكرى والحقوقى تعمد بالألم والمعاناة، دفاعا عن حقوق عمال الحديد والصلب، ومن ثمّ لم يكن موقفا نظريا محضا. المزاوجة بين البحث والتنظير الاستراتيجى فى العلاقات الدولية والنظم المقارنة والنظام المصرى والعربى، وبين المعالجات التطبيقية كما برزت فى كتاباته فى التقرير الاستراتيجى العربى. من ناحية ثانية الجمع بين وظيفة منتج المعرفة والبحث، وبين صانع البشر من خلال الدرس والتعليم والتدريب لباحثين مساعدين، وباحثين شباب ينتمون إلى أجيال تالية، وإعطائهم الفرص لممارسة حريتهم الفكرية والبحثية، ويمكن وصف علاقته ببعض شباب الباحثين وباحثين أكبر سنا بالديمقراطية وإعطائهم الإحساس بالزمالة والندية، ومساعدتهم بشكل غير مباشر على تكوين وإظهار شخصيتهم البحثية والإنسانية. ومن الشائق القول إن محمد السيد سعيد كان من القلائل الذين لا يمارسون أستاذية على المساعدين والباحثين الشباب، ولم يكن مثل بعضهم يريد أتباعا ومناصرين وإمعات يرددون مقولاتهم ونقولاتهم وتحيزاتهم السياسية والنظرية ومواقفهم الاجتماعية، كما شاهدنا ورأينا ذلك كثيرا فى الحياة الأكاديمية والبحثية المصرية. كان الاعتدال الفكرى ذو الروح الإصلاحية سمت تفكير وموقف، ومن ثم يمكن القول إن النزعة الإصلاحية الشاملة ذات الوجه العدالى والحقوقى والإنسانوى هى أبرز ملامح المشروع الفكرى لمحمد السيد سعيد، لا سيما منذ نهاية عقد التسعينيات وما بعد، فى ظل سنوات العشرية الأولى من القرن الحادى والعشرين. يعود هذا التوجه إلى ربط محمد بين تجارب الإخفاق التنموى والتعثر الديمقراطى المصرى، وميراث التسلطية السياسية والطغيان والقمع الممنهج، وأنماط التربية والتنشئة الاجتماعية والسياسية السلطوية والأبوية التى تكرس الخنوع والانصياع والمسايرة والنفاق، وهى أمور تحتاج إلى معالجات إصلاحية شاملة، ومن ثم إلى مراحل زمنية. من ناحية أخرى، أدت الأعطاب البنيوية –فى بعض الأفكار والسياسات والبرامج– إلى انهيار الإمبراطورية الماركسية، وتفكك الاتحاد السوفييتى السابق، وصعود الإمبراطورية الأمريكية على النظام العالمى المعولم. من هنا كانت النزعة الإصلاحية السياسية والاجتماعية والدينية هى سمت رئيس لمشروعه فى مراحل استكمال بعض من تشكلاته. يلاحظ أيضا أن الباحث الكبير كان يجتاحه بعض من الحنين إلى النزوع الراديكالى والثورى فى بعض معالجاته فى جريدة «البديل» لبعض الشؤون الداخلية المصرية، أو فى بعض المواقف السياسية الرسمية إزاء إسرائيل، والمنازعات الفلسطينية/الفلسطينية، خصوصا إزاء السلطة الفلسطينية، وحكومة حماس المقالة، ومعها الجهاد الإسلامى، والجبهة الشعبية. خاتمة: وجيزُ ما تقدم أن الإطار العام للمشروع الفكرى لمحمد سيد سعيد يتمثل فى عديد الروافد الفكرية والمعرفية التى أضفت على مشروعه وكتاباته الحيوية والواقعية والمزج بين التنظير والممارسة، وربما كان محمد السيد سعيد وبعض صحبه هم الذين حرضوا بالأفكار الجديدة والملهمة وباللغة الجديدة المشعة بالدلالات المغايرة والمترعة بالبدائل، ما أطلقنا عليه الحراك السياسى النسبى وحركات الاحتجاج السياسى والاجتماعى، ومن ثم حركة كفاية ونظائرها وأشباهها الموقفية، والجماعات المطلبية/الاجتماعية الجديدة، وهو ما أثمر بعد ذلك فى ميلاد حركات احتجاجية أخرى مثل «6 أبريل»، و«كلنا خالد سعيد»، ثم الانتفاضة الثورية فى 25 يناير 2011، هؤلاء المحرضون والثائرون والمتمردون الكبار الذين حركوا الواقع الساكن هم أبناء هذا الجيل السبعينى ومفكروه الذين أعطوا ولاءهم بلا حدود لقيم الحداثة والحرية والعدالة وحقوق الإنسان، وأن مصر الأمة والدولة الحديثة أكبر وأهم من واقعها الشاحبُ ومما يطلق عليهم مجازا بالصفوة السياسية الحاكمة والمعارضة معا. باحث رصين ملء السمع والبصر، وعندما يكتب عن تاريخ الأفكار منذ السبعينيات وما بعد، سوف يكون واحدا من ألمع أبناء جيله الذى لن يمكن لأحد كائنا من كان أن يستبعده، أو يهمّشه.. تحية لمُحمد العزيز الغالى الحاضر المقيم فى حياة أصدقائه وصحبه، وفى ضمير الأحرار فى أمته المصرية.