بقلم - نبيل عبد الفتاح: درسنا في المقالتين السابقتين الإطار العام للمصادر التكوينية والمعرفية التي شكلت العالم الفكري للباحث الكبير محمد السيد سعيد وتجليات تكوينه المتفرد وموهبته الاستثنائية في تقويض الأبنية الفكرية والمنهجية سابقة التجهيز. أحد أبرز انجازات العزيز الغالي محمد تتمثل في كسر الأنماط اللغوية الجاهزة, والتي فقدت روحها ورونقها, وباتت وفق التعبير الفرنسيlanguedelois خشبية فاقدة المعني, ولا تملك سوي صخبها, لأنها أقرب إلي البراميل الفارغة التي تحدث ضجيجا وصخبا. في المقال الثالث نتناول درس اللغة لدي محمد السيد سعيد. أحد مداخل تقويم الكتاب والباحثين والصحفيين, بل والمشايخ والدعاة تبدأ من اللغة بوصفها انساق معرفة ووعي ونقد وتقويض وتحليل وتركيب, أي بوصفها فضاء إبداعي بامتياز وليست محض أداة كما يذهب اللغويون التقليديون من سدنة المعابد والهياكل اللغوية الخشبية والتي تعكس الرقابة اللغوية والأحري لغة تبدو محافظة وجامدة, أو الكلام الساكت وفق التعبير السوداني الذائع. أنها لغة الحفريات التي يحاول بعضهم حراستها لتكون لغة متحفية لا تتطور, بينما لغات العالم ومعانيه تتحرك, وفق إنتاج لغوي غزير وديناميكي وثري. يمكنك أن تكشف قدرات أي باحث أو كاتب أو إعلامي من لغته, حيث يبدو الثراء المؤنق والعمق والجدة والاستثنائية سمت قلة القلة من الكبار.. الكبار, وهؤلاء هم بناة العالم في كل الثقافات, حتي وإن لم يترجموا إلي اللغات الحية الفوارة بالتجدد والتجاوز. تزداد أهمية اللغة ووصفها الاستثنائي لدي الباحث في العلوم الاجتماعية والسياسية, حيث الانساق الاصطلاحية لكل فرع علمي محددة المعالم والمعاني والدلالات, وثمة أرثوذكسية أكاديمية لا تقبل سوي بما عرفته وألفته, وتعيد إنتاجه حتي تفقد هذه المنظومات الاصطلاحية قدرتها وكفاءتها علي الوصف والتفكيك والتحليل والتفسير. من هنا سر الموات الدفين في عديد الدراسات والاطروحات البحثية الجامعية, لأنها تعيد إنتاج موت بحثي معلن إذا شئنا استعارة بعض ماركيز ولعل الثرثرة واللغو والرطانة فاقدة المعني وراء بعض من العبث الذي نراه في الكتب والمقالات والتعليقات الشفاهية في بعض مسرحيات البرامج الفضائية المرئية من فقر اللغة.. وفقر المعاني والدلالات بما يعني فقر الأفكار.. ربما يتجلي بعض من هذا الفقر الشديد في بعض صياغات مسودة الدستور, وبعض نقاشات أعضاء اللجنة التأسيسية, والأخطر.. الأخطر ضعف اللغة القانونية الدستورية, التي كانت يوما ما أحد أبرز مستويات الأدب القانوني في اللغة العربية والناطقين والكاتبين بها. من هنا تبدو أهمية الدرس اللغوي في كتابات وبحوث محمد السيد سعيد, سواء علي المستوي الأكاديمي والبحثي, أو علي المستوي الصحفي في تجربة صحيفة البديل. من هنا يحق لنا التساؤل: ما معني اللغة لدي محمد السيد سعيد؟ معناها هو تحرره من اللغة الصنمية, واللغة الأقنومية التي تنمط عالمها, ظواهرها وتاريخها, وتحتكر معني خاص بها أنها تحتكر المعني والمعرفة بعالمها ومنطوقها. لغته كانت سره, ولعلها أهم ما قدمه نظريا وتحليليا لقد حررته من المقولات الفلسفية والإيديولوجية والتراثية الشائعة في السوق السياسي والأكاديمي والبحثي والصحفي والحزبي. لغة محمد السيد سعيد تحررية في العمق لأنها حررت تفكيره من اللغة العتيقة التي غادرتها روحها وربما معانيها وساعدته في التحرر من المعتقل اللغوي القديم, وبعض المستعار من المرجعيات الاصطلاحية الغربية, وإدخال تناصات واشتقاقات وتنظيرات مباشرة للواقع المصري الحي وكان ذلك من أهم ما قدمه. كانت لغة الباحث الكبير مركبة وعميقة وسلسلة, ولكنها ليست لغة الجمهور من القراء أو الباحثين, ولكنها لغة ودلالة ومعاني تحتاج إلي حد أدني معرفي, وذلك حتي يمكن للقارئ/ المثقف والقارئ/ الباحث أن يستكشف لذة النص إذا شئنا استعارة كتاب رولان بارت ذائع الصيت-, والأحري أن يستشعر معني لذة القراءة المركبة والموحية, والمحمولة علي أسئلة هامة, والمفتوحة علي أسئلة أخري لا تقدم إجاباتها, ولا تدعي ذلك قط. يبدو لي أن مشروع صحيفة البديل, أضفي بعض من الحيوية الأسلوبية علي لغة محمد, لخضوعه لاعتبارات اليومي والوقائعي والعارض والمستمر في السياسة والحياة اليومية. الممارسة الكتابية اليومية تشكل تحدي قد يقود إلي سوقية لغوية, وسعي نحو لغة اليومي التي تحركها الأفواه الثرثارة, ويلتقطها بعضهم ويحولها إلي لغة قارئ الصحف, ومشاهد البرامج الحوارية المتلفزة الكسول في الفضائيات المصرية أو بعض العربية, أو في التلفازات المحلية المترعة بفقرها المهني المدقع. ساهم بعض هؤلاء من خلال الخطاب السوقي والغوغائي الشفاهي في تسييد لغة الشارع, وثرثرة المقاهي ومحمولاتها الجهولة إلي لغة الشاشة, ومقالات الصحف وعناوينها, بكل ما أدي إليه هذا التوجه الصاخب إلي المساهمة في تدهور الخطاب العام, وتدني مستوي الجدل والحوار العام في مصر. أخطر ما في هذا التوجه أنه ساهم في إفقار العقل العام, وداخل النخب الحزبية الرسمية والمعارضة والمحجوب عنها الشرعية القانونية. حول الخطاب السوقي والثرثاري الصحافة المكتوبة والمرئية إلي حالة محلية واهنة وفقيرة ولا صلة لها بما يجري حولها وداخلنا وفي عالمنا. حاول محمد السيد سعيد أن يرتقي بلغة الخطاب اليومي الصحفي, أقول حاول وليس للإنسان إلا ما سعي في ممارسته الصحفية, ولكن يبدو أن الواقع قد تغير في إطار غالب جيله والأجيال اللاحقة, واستطاعت الدوغمائية, والعقول الإيديولوجية المستلبة والممسوسة أن تقضي علي هذه التجربة في مهادها, لأن بعضهم تصور أنها فرصته ليطرح تعاليمه ومقولاته الخشبية المهزومة لإنقاذ العالم والتاريخ ومصر بعدهما! المفكر الناشط في الحركة المصرية والعربية لحقوق الإنسان كيف يمكن تفسير الحركية والنزعة الحقوقية الدفاعية في إطار حركة حقوق الإنسان؟ كيف يمكن فهم هذا التداخل بين النشاطية إذا جاز التعبير وساغ أو الحركية, وبين دور المفكر النقدي, وبين معني المثقف المتغير. النشاطية في مجال الحركة الحقوقية والدفاعية ظاهرة ثمانينية في أعقاب عديد القيود التي واجهت نشطاء الحركة السياسية, المصرية ومنها العنت في العمل والاعتقالات والحصار الذي واجه القوي اليساروية والقومية الناصرية والبعثية وبعض الليبراليين, من قبل السلطة السياسية وأجهزتها الأمنية. من ناحية أخري الإحساس بعدم تأثير الخطابات الماركسية, والناصرية في ظل صعود وامتداد الخطاب الإسلامي السياسي, والخطاب الديني القبطي الأرثوذكسي الذي نزع نحو الجوانب العقائدية واللاهوتية والتشجيع علي عزلة الأقباط, والحض علي تماهيهم مع السلطة الدينية الأكليروس والكنيسة. من هنا وجد بعض هؤلاء في صعود الخطاب الحقوقي لحقوق الإنسان ملاذا جديدا يمكن العمل من خلاله, ولاسيما أنه بات يجد دعما عالميا من المنظمات الحقوقية غير الحكومية علي المستوي العالمي. لا شك أن بعض مثقفي جيل السبعينيات وجدوا أن الخطاب الحقوقي يتسم بأهمية ما, ويمكنهم من خلال إيجاد وشائج مع مشاكل المواطنين اليومية, وخاصة تلك التي تتصل بالحقوق والحريات الشخصية والعامة. كان محمد السيد سعيد أحد أبرز هؤلاء المثقفين اللذين اهتموا اهتماما خاصا بالمسألة الحقوقية وعرفوا أهميتها كأساس لأية إمكانية للتطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي في مصر. أستطيع أن أضع موقف محمد السيد سعيد كناشط حقوقي, وكمفكر للحريات وحقوق الإنسان كاستمرارية لجيل الآباء النهضويين اللذين ربط بعضهم بين الموقف الفكري والنظري النهضوي, وبين الموقف العملي بما يستلزمه من اتخاذ مواقف عملية وحركية إزاء كل ما يتعارض مع خطابهم النهضوي أو التنويري أو الحداثوي المعلن خذ ما شئت من هذه الاصطلاحات والصفات علي التمايز الدلالي فيما بينهما-, من جمال الدين الأفغاني, ومحمد عبده, وطه حسين, وعباس العقاد, وبعض مثقفي اليسار اللذين دفعوا من حريتهم أثمان غالية دفاعا عن مواقفهم العدالية أو الراديكالية ومنهم علي سبيل المثال لا الحصر الأساتذة شهدي عطية الشافعي وأبو سيف يوسف وإسماعيل صبري عبد الله, وفؤاد مرسي وآخرين. هذا الموقف النضالي أو الكفاحي للمثقف يبدو وكأنه نعت المثقف اليساروي والقومي وآخرين في التيار الليبرالي, ولدي بعض من يطلق عليهم هذا الوصف في الحركة الإسلامية مصريا وعربيا. وأخطر ما في الصفة النضالية أن بعضهم يتخذها شارة وأيقونة في الحضور المتزمت والمتشدد في مشاهد السياسة والثقافة معا علي نحو أدي إلي تراجع الثقافي وحلول السياسي الراديكالي الذي يمنح صكوك الغفران للآخرين, أو يطلق اتهاماته المرسلة والصاخبة علي مخالفيه في الرأي. في الغالب المثقف بالسماع وفق علي فهمي وريث ثقافة الحكاوي والمرويات, الذي ليست لديه من المقدرة والكفاءة والإبداع ما يجعله ينتج من الأفكار والرؤي الجديدة والنقدية, هو الذي يعتصم بالمقولات الاتهامية, والأكلشيهات,clich التي لا تقدم شيئا جديدا, وتفسر كل شئ ولا تفسر أي شئ! من هنا يمكن فهم دور المثقف كصانع ومبدع للأفكار والخطاب النقدي والتفكيكي. أن مفكر الهدم والبناء, يمثل نمط نادر في ثقافتنا المصرية والعربية. من هنا يمكن وضع محمد السيد سعيد رجل اللغة الضاري إذا شئنا استعارة بريخيت الذي هدم أفكار وقوض معاني, وولد أخري في مساره الفكري المتميز في جيله, وبين أجيال سابقة ولاحقة.