القطاع المصرفى عصب أى اقتصاد، فالأزمات المالية العالمية الكبرى تبدأ الشرارة الأولى لها من البنوك، ولذا فإن سلامة القطاع المصرفى تعنى سلامة البنية الأساسية للاقتصاد، حتى وإن أصاب الجسد بعض الوهن بفعل الأزمات الخارجية أو الداخلية التى تواترت بشدة خلال السنوات الخمس الماضية، فلم يكد الاقتصاد يتعافى من تداعيات الأزمة المالية العالمية التى ضربت العالم بنهاية 2008 حتى قامت ثورة الخامس والعشرين من يناير بما تبعها من انفلات أمنى وتراجع لكل مؤشرات الاقتصاد الحقيقى، والمتمثل فى معدلات النمو والتضخم والناتج الإجمالى المحلى، بالإضافة إلى التخفيض المتكرر لمعدلات التصنيف الائتمانى من قبل المؤسسات الدولية. «التحرير» حاورت هشام عكاشة، رئيس البنك الأهلى المصرى، أكبر البنوك العاملة فى القطاع المصرفى، للوقوف على وضع الجهاز المصرفى فى الوقت الراهن، والتحديات التى تواجه تداعيات الأزمة الاقتصادية التى تلوح فى الأفق على القطاع، وكذلك استشراف مستقبل القطاع من خلال مؤشرات أكبر البنوك العاملة به. ما تقييمك لوضع القطاع المصرفى بشكله الحالى؟ - حتى نتمكن من تقييم الوضع الحالى لا بد أن نقف على أهم التحديات والظروف الاقتصادية والسياسية والتحديات المحلية والدولية التى مر بها القطاع، خصوصا خلال السنوات الثلاث الماضية. سأبدأ من 2004 وتحدث عن تلك الفترة حتى نعلم أين كنا.. وإلى أين وصلنا.. ومن أين جاءت ثقة المودعين فى الجهاز، وكيف تحسنت السيولة والمراكز المالية؟ ففى 2003- 2004 عانى الجهاز المصرفى من مشكلة مزمنة فى العملة، ومشكلة خطيرة فى أساليب منح الائتمان، وهو ما أدى إلى ديون متعثرة بنحو 130 مليار جنيه، إضافة إلى عجز بالغ فى المخصصات، كما كان لدى الجهاز فى ذلك الوقت نحو 63 بنكا ربعها مفلس تقريبا، وهو ما أدى إلى عملية الدمج خلال الإصلاح، ليصل العدد النهائى إلى 39 بنكا، ولم يفقد أى مودع أمواله خلال الدمج أو قبله. مع الإصلاح المصرفى تم تدعيم المراكز المالية للبنوك بعدد من الإجراءات، وبعد ذلك دخلنا دوامة الأزمة المالية العالمية فى 2008، وأكاد أجزم أنه لو كان القطاع المصرفى دخل للأزمة العالمية بنفس حاله فى 2003 كان من المستحيل أن نصمد، لكن الإصلاح الذى بدأ فى 2004 حمى القطاع المصرفى بقوة، لأنه حال دون الانغماس فى المشتقات المالية التى سببت الأزمة فى البلدان المختلفة، ولم يقتصر دور الإصلاح على حماية القطاع من تبعات الأزمة المالية العالمية فى ذلك الوقت، لكن أسهم فى رفع ثقة المودعين فى القطاع المصرفى، مما أدى إلى تضاعف نمو الودائع فى القطاع. وفى بداية 2011 حققت البنوك مراكز مالية جيدة، وبعد قيام ثورة يناير مر القطاع المصرفى بما لم يمر به أى قطاع مصرفى فى العالم، وتمكن من الصمود، وهذا يدل على قوة الجهاز. وما الصعوبات التى واجهها القطاع بعد ثورة يناير؟ - مظاهرات ومطالبات فئوية، وقلق على المدخرات، وشائعات كثيرة حامت حول المدخرات ومستقبل الجهاز المصرفى ومستقبل الدولة ككل، إضافة إلى عدم إمكانية نقل الأموال، إلى جانب تخفيض التصنيف الائتمانى للدولة 5 مرات متتالية، كما واجهتنا مشكلات كثيرة فى التعامل مع المراسلين بالخارج، إضافة إلى مشكلة العملة نتيجة تهريب السلع والبضائع المدعمة، وهو ما تسبب فى ضغط على العملة الأجنبية وزيادة فاتورة الدعم، ومع تراجع السياحة زاد الضغط على العملة الأجنبية، وكذلك التضخم، إضافة إلى انخفاض الطلب على الائتمان نتيجة حالة الترقب التى اكتنفت نفسية المستثمرين. ورغم ذلك استمرت البنوك صامدة، وبفضل الإصلاح الذى بدأ فى 2004 وعلاقات البنوك الخارجية مع المراسلين وثقة المراسلين فى القطاع، استمر التعامل رغم كل هذه التحديات، ومن هنا يمكننا أن نقف على وضع البنوك التى لا جدال فى أنها تقف على ركيزة قوية وحقوق ملكيتها كافية، إضافة إلى ارتفاع معدلات السيولة، نظرا لأن القطاع كان الملاذ الآمن لأموال المودعين. إذن نحن أمام جهاز مصرفى قوى، لكن ألا توجد لديك تخوفات على الجهاز من مؤشرات الأزمة الاقتصادية العالمية التى نمر بها حاليا بعد تخفيض صندوق النقد توقعات النمو العالمية؟ - ما يحدث عالميا فى الوقت الراهن يضعنا أمام تحديات مثل الركود العالمى، وأحد أنواع الركود الذى نتحدث عنه هو التضخم السلبى، بمعنى أن أسعار السلع تقل نتيجة انخفاض الطلب، وأوروبا تدخل نفس الاتجاه حاليا، وهو ما يمثل تحديا جديدا، والأزمات العالمية لا تجد حلا سريعا، وما يقلقنى أكثر خلال الفترة القادمة بسبب الأزمة العالمية ليس متعلقا بالقطاع المصرفى الذى يعد ميزة أساسية بالاقتصاد المصرى، لكن الأزمة الاقتصادية سوف تؤثر بلا شك على التجارة العالمية كما أثرت فى 2008 على السياحة، نتيجة ضعف القوى الشرائية للأجانب، وليست الأزمة الاقتصادية العالمية فقط، إنما يقلقنى أيضا التوسع فى تقنية المعلومات، فنحن نقرأ عن أنظمة محطات كهرباء تقع بسبب ذلك، ونتحدث عن سرقة بيانات من شركات وقطاعات مختلفة، ولذا فالهجمات الإلكترونية هى أحد التحديات حاليا، وهو الأمر الذى جعل البنك المركزى مهتما جدا بالتطوير الإلكترونى لأنظمة العمل داخل القطاع المصرفى للوقاية والحماية من تلك الهجمات. رغم ارتفاع حجم الودائع بالقطاع المصرفى فإن معدلات الائتمان للودائع منخفضة، فما السبب؟ - طبعا نسب الائتمان إلى حجم الودائع منخفضة داخل القطاع المصرفى، وهذا فى حد ذاته يعتبر تحديا يواجه القطاع، أما عن السبب وراء ذلك فهو حالة الترقب التى أصابت أغلب المستثمرين فى انتظار استقرار الأوضاع، إضافة إلى أن وقت الأزمات تكون القاعدة هى الاحتفاظ بالأموال، وكما يقول الإنجليز «cash is king»، وعلى سبيل المثال فى وقت الأزمة العالمية الودائع تضخمت فى البنوك، والشركات كان لديها بند نقدية عال جدا، وما يحدث فى مثل هذه الفترات هو إحجام الشركات عن الاستثمار فى العقار أو البورصة أو عمل توسعات رأسمالية، وبالتالى ترتفع السيولة بمعدل أعلى من معدل زيادة الائتمان، ولهذا وصلنا بالودائع إلى 1٫3 تريليون جنيه، والتسهيلات الائتمانية إلى 580 مليار جنيه. كم يبلغ عدد المتعاملين فى الجهاز المصرفى؟ - العدد يتراوح بين 6 و8 ملايين عميل، وهو رقم منخفض فى الحقيقة مقابل 54 مليون ناخب، ومقارنة ب105 ملايين خط محمول، ويرجع هذا الانخفاض فى عدد المتعاملين إلى ما نطلق عليه اسم «الاقتصاد غير الرسمى»، الذى ظهر جليا فى موقفين، أحدثهما شهادات استثمار قناة السويس، إذ دخل الجهاز المصرفى خلال مدة طرح الشهادات 27 مليار جنيه من خارج القطاع المصرفى، ولا يمكن أن تكون هذه المبالغ من أوعية ادخارية أخرى، فلا أحد يستطيع تسييل عقارات فى 8 أيام، كما أن البورصة لم تشهد بيعا بنفس المبلغ خلال فترة الاكتتاب، كما أن الذهب لم ينخفض سعره خلال نفس الفترة، وهو الأمر الذى نستطيع معه أن نجزم بأن المبالغ كلها للاقتصاد غير الرسمى. أما الموقف الثانى فكان واضحا بعد ثورة 25 يناير، إذ كانت المؤشرات المالية التى مرت بها منذ 2011 أقل ما يقال عنها إنها تدعو إلى التشاؤم، ورغم ذلك فإن السلع كانت متوفرة، والاقتصاد يتسم بقدر من الحراك بسبب السيولة غير الرسمية المتداولة فى السوق فى ذلك الوقت، ولذا لا بد من دمج الاقتصاد غير الرسمى الذى مثل نحو 70٪ من الاقتصاد، وإذ تم الدمج فنحن نتحدث هنا عن قفزة فى الناتج القومى من 1٫8 تريليون فى الوقت الراهن لنحو 2٫8 تريليون ككل، وهو ما يسهم فى تغيير كل المؤشرات الاقتصادية للدولة. وهل هناك خطة لدمج الاقتصاد غير الرسمى للاقتصاد الرسمى حتى تكون السيولة كلها داخل القطاع المصرفى؟ - طبعا، فالبنك المركزى يركز بشدة فى تنفيذ «الشمول المالى» من خلال زيادة الوعى المالى، وأظن أن التعامل على شهادات استثمار قناة السويس أزال جزءا من رهبة التعامل مع القطاع، ومستمرون فى زيادة الوعى، إضافة إلى إدارة نظام المدفوعات ليصبح إلكترونيا فى أى مصروفات أو مخالفات أو فواتير، فمنظومة المدفوعات الإلكترونية ستسهم بدورها فى تغيير ثقافة التعامل مع البنوك، ليس هذا فقط، بل إننا نحتاج إلى مجموعة من القرارات يتم من خلالها التنسيق بين الجهات المختلفة لإدارة منظومة الاقتصاد غير الرسمى. على ذكر شهادات استثمار قناة السويس، فما نصيب ودائع البنك الأهلى من إجمالى الحصيلة؟ - محافظ البنك المركزى رفض فى وقت سابق الإعلان عن حصة كل بنك، وقال إننا قطاع واحد متكامل، وأنا لن أقول رقما. لكن البنك الأهلى من أكبر البنوك العاملة فى القطاع، وتبلغ ودائعه نحو ثلث الودائع فى الجهاز، فلا بد وأنه تأثر بشهادات استثمار قناة السويس؟ - إطلاقا لم نتأثر، وأنا مصر على عدم إعلان رقم مساهمة البنك الأهلى فى شهادات استثمار قناة السويس، ولكن يمكن أن أقول إن الودائع كانت قبل طرح الشهادات تقدر ب400 مليار جنيه، وبعد الطرح أصبحت 395 مليار جنيه. هل هذا يعنى أن البنك أسهم ب5 مليارات فقط من ودائعه فى الشهادات؟ - لا طبعا، لأن هناك أموالا جاءت من خارج البنك، إضافة إلى مدخرات من عملاء آخرين، فتأثير الشهادات على السيولة والودائع ضعيف. هل لأن البنك الأهلى أكبر بنك فى السوق المصرفية يقتصر تعامله مع كبار العملاء؟ - لا طبعا، والدليل أن صافى محفظة المشروعات الصغيرة والمتوسطة بلغت نحو 12٫5 مليار جنيه حاليا، مقارنة ب3٫5 مليار جنيه فى 2008، والنتيجة كانت فى تحول 62 عميلا من الصغير للشركات الكبرى، وهذه مسؤولية أساسية للبنك ترتكز حول تكبير الشركات الصغيرة والمتوسطة، كما أن عدد عملاء البنك من صغار المودعين وصل إلى 2٫200 مليون عميل، بأرصدة تقارب ال5 آلاف جنيه.