عندما عاد محمد مندور من بعثته إلى فرنسا بعد تسع سنوات من السفر، ولم يحقق ما كان يصبو إليه أستاذه الدكتور طه حسين، كان ذلك سبب انزعاج شديد للأخير، وقد كان طه حسين يتبنى الطالب محمد عبد الحميد مندور منذ أن كان طالبا بكلية الحقوق، وأقنعه أن يدرس الآداب، بالإضافة إلى الحقوق، وبالفعل حدث ذلك، وأنجز مندور ما لم يكن فى الحسبان، إذ حصل على ليسانس الآداب وكان ترتيبه الأول على الدفعة، وساعتئذٍ اختارته الجامعة سنة 1929 ليكون ضمن بعثتها الدراسية إلى السوربون للحصول على ليسانس فى الآداب واللغات اليونانية القديمة واللاتينية والفرنسية والأدب المقارن، واستبقته الجامعة المصرية عاما قبل السفر ليدرس فى هذا العام اللغة الفرنسية، وبعدها حصل مندور على ليسانس الحقوق، وكادت تتعرقل الرحلة بسبب رسوبه فى الكشف الطبى لضعف بصره الشديد، وهنا يتدخل الدكتور طه حسين ويذهب بنفسه إلى محمد حلمى عيسى وزير المعارف آنذاك، وبين يديه بحث عن ذى الرُّمة كتبه الطالب محمد مندور، ويقنع الدكتور طه حسين وزير المعارف بالعدول عن قرار منع مندور من اختيار الجامعة له، من أجل هذا السبب الذى لا دخل له فيه، وبالفعل يوافق حلمى عيسى على قرار الجامعة، ويذهب مندور إلى باريس، وهناك راح مندور لينبهر بالمتاحف والثقافة وكل ما باحت به الحضارة الغربية، راح يقرأ ويزداد معرفة وعلما من هذا المعين الأوروبى المهول، ولكنه لم يحصل على الهدف الذى ذهب من أجله، وهو شهادة الدكتوراه، تسع سنوات من السفر والترحال دون فائدة ممهورة بالخاتم السوربونى العظيم، ولكن الفائدة كانت فى التحصيل الثقافى والعلمى الكبير الذى أسّس لناقد ومفكر مرموق، أضاف إلى بلاده فى مجالات النقد الأدبى والفكر السياسى، وعمل على تحريك المياه الراكدة من خلال معاركه الأدبية الشهيرة فى الأربعينيات من القرن الماضى، وأبدع وناضل وكتب وأصبح موجودًا بقوة، هذا الوجود الضرورة، وليس الوجود الزائد الذى تعانى منه الحياة الثقافية والفكرية والأدبية فى مصر على مرّ العقود، وكتب فى الشعر والقصة والرواية، وتزوج من تلميذته الشاعرة ملك عبد العزيز، والتى منحها فرصة أن تكتب له مقدمة كتابه الفريد «نماذج بشرية»، وهو الناقد والمفكر والمناضل الذى لا يحتاج إلى تقديم، ولم يكن يعجبه الشعر الزاعق والضاج الصاخب، لذلك كتب عن الشعر المهموس، وأفسح له صفحات كثيرة من كتابه «فن الشعر»، وأوضح ذلك بطريقة ما فى الحلقات الثلاث «الشعر المصرى بعد شوقى»، وشارك فى عقد الأربعينيات فى النضال من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وكتب عددًا كبيرًا من المقالات فى ذلك الشأن، وكان من قيادات «الطليعة الوفدية» مع رفيقه المغتال الشاعر عزيز فهمى، والمهندس عبد المحسن حمودة، ولهم مقالات كثيرة فى صحيفة «صوت الأمة»، وجمع بعضها الناقد الراحل رجاء النقاش، ونشرها فى كتاب «مقالات لم تنشر لمحمد مندور»، وكان قد حصل على الدكتوراه بإشراف الدكتور أحمد أمين الذى تبناه بعد أن غضب عليه طه حسين، واستكتبه كذلك أحمد أمين فى مجلته «الثقافة»، وبعد ثورة يوليو كان مندور أحد الأعمدة الكبرى لكل الأنشطة الثقافية، وليس صحيحا ما يشاع عن أن محمد مندور قد لاقى بعض الاستبعاد بعد يوليو، بل كان على رأس الكتّاب والمثقفين الذين يشاركون فى كل اللجان والمجلات والندوات الفكرية، ولا نستطيع أن نحكم بحكاية استبعاده هذه، لأن يوسف السباعى عاق حضوره فى مؤتمر هنا أو ندوة هناك، فهذه الحكايات الصغيرة لا تشكل مجمل العلاقة بين مندور من ناحية، وسلطة يوليو من ناحية أخرى، ولكن اللافت للنظر أن محمد مندور كان يجد بضعة انتقادات ومشاكسات لتوجهه الطليعى فى الثقافة، ولتبنيه بعض المواهب الجديدة فى النقد والإبداع مثل رجاء النقاش وصلاح عبد الصبور ونعمان عاشور ونجيب محفوظ، وفى المقابل هاجم يوسف السباعى فى روايته «طريق العودة»، التى رآها مندور أنها مباشرة ودعائية وسطحية، ويوسف السباعى على رغم أنه كان رجلا مسؤولا وذا مهمات رسمية، لم يكن ينسى بعض هذه الحارات الضيّقة فى الثقافة، فكان يرد بنفسه أحيانا فى مجلته «الرسالة الجديدة»، أو ينيب عنه من يرد، وكان كثيرون يتبرعون بمهاجمة مندور، لأنهم يرون أنه ليس عقاديا مثلا، أو أنه ينتصر للعامية فى الكتابة، وفى هذا المجال كتب «ابن زيدون» فى 22 سبتمبر 1961 فى صحيفة «المساء» مقالا تحت عنوان: «أسئلة إلى الدكتور مندور»، وكانت القضية تتلخص فى أن ابن زيدون -وهو الاسم الذى اختاره الشاعر والناقد كمال النجمى ليوقع به على مقالاته- كان يرى أن تناقضا ما عند الدكتور مندور، لأنه يتحدث فى الإذاعة، ولا يراعى أصول النحو والقواعد النحوية، رغم أن ابن زيدون يؤكد معرفة مندور بهذه القواعد، وهو فى كتاباته لا يلحن ولا ينحرف، بل يكتب لغة سليمة وصافية وصحيحة، إذن لماذا لا يلتزم بهذه الصحة عندما يتحدث بها فى الإذاعة؟ ويكتب ابن زيدون قائلا: «لست أريد الآن أن أناقش الدكتور مندور فى النحو والصرف والوزن، فهذه حكايات لا مناقشات.. ولكنى أريد أن أقول له: إنك قدوة وإمام فى الأدب، وليس يصح لك أن تمضى فى طريق، لا نعرف نحن المقتدين بك، وجه الحقيقة فيه.. صحيح أنك أوضحت بعض رأيك فى مسألة الأوزان، ولكنك لم تقل شيئا نحتج به عنك أمام الناس.. وصحيح أن لك رأيًا فى مسألة الفصحى والعامية وتبسيط النحو، ولكنك تسرف فى إلغاء النحو متحدثا، بينما تلتزمه كاتبا، فبأى حجة ألغيته فى كلامك، والتزمته فى كتابتك؟!». ولا ينسى ابن زيدون بعض الغمز واللمز فى انتصار مندور لبضعة شعارير، ورغم هذا الغمز وذاك اللمز، فإن تقديرًا واضحا يكمن فى جنبات المقال كله.