قلت من قبل إن الرسائل تصل إلى العسكر متأخرة. قلت أيضا إن الثورة ليست وجهة نظر، أو اختلافا فى الآراء، لكنها إرادة تغيير دفع الثوار ثمنها من روح وقلق ومغامرة ببسالة وجسارة. الثورة ليست انتظارا للمنح... ولا تقسيما للكعكة.. وهذا ما لم يفهمه العسكر. الثورة إرادة وليست مطالب ينفذها من يجلس فى موقع الديكتاتور... إنها ثورة ضد ديكتاتورية الحكم بالقوة. هدية المشير وصلت بعد موعدها، فلم يشعر بها أحد، هدية فارغة من معناها، كيف تلغى حالة الطوارئ بعد فوات أوانها؟ كيف تنفذ مطلبا بعد تصعيد إرادة الثورة بإزاحة العسكر عن إدارة المرحلة الانتقالية وعن صناعة شرعية السلطة فى جمهورية جديدة. الثورة تريد إنهاء شرعية الحكم بالقوة أو الغالب يسيطر... وهو ما يعنى ببساطة أن المؤسسة العسكرية لا بد أن تعود إلى حجمها الطبيعى وإلى مهمة الحماية. هذا ما لم يدركه العسكر ولا المشير حين ساروا على خطى قائدهم مبارك فى ترويض الشعب بالعنف (آلات الرعب فى أجهزة الأمن) والتنويم (علاوات وهدايا وتلبية المطالب بطريقة التفافية لا تجعلها تلبية حقيقية). المشير شن هو ومجلسه الحرب على الثورة، مستخدمين فيها خطة مبارك لكن دون أدواته... وهذا أوصلنا إلى فوضى يتهمون الثوار بصناعتها. خدعة قد تنطلى بعض الوقت، لكنها لا يمكن استمرارها طول الوقت، فالعسكر صنعوا فوضى ولا يملكون طرق الخروج منها. كان مبارك يعتقد أنه سيعبر الأزمة كما سموها، وسيواجهها بالحكايات عن بطولاته فى 30 سنة. رأس عجوز، يتصور أنه سيسيطر على شعبه بالحكايات القديمة، وأجهزة وصلت إلى حالة عجز شبه كامل. لم يعد يدافع عن النظام إلا الجيش، يريد استمرار «النظام» ويتخذ مسافة من قصر الرئاسة حيث أصبح الأب تماما فى قبضة الابن. المسافة بين الجيش والرئاسة اتسعت بعد موقعة الجمل، كلاهما أراد إنقاذ النظام، كان يعنى ذلك للرئاسة استمرار مبارك بأى ثمن، واعتبار ما يحدث سحابة صيف... وبالنسبة إلى الجيش كان ذلك يعنى أنه لم يعد لحماية مبارك مجال. الدولة انهارت، هكذا كانت فى ال18 يوما بالنسبة إلى كل من اقترب من النظام، بينما فى التحرير كانت المغامرة مفتوحة، جسم بلا رأس يهز البناء الضخم. رأس النظام يترنح فى القصر تحاول العائلة حمايته، لكن فى الميدان لم يكن أمام الملايين سوى إكمال المغامرة. حرب حياة وموت بين رأس افترق عن جسده، وجسد بلا رأس، وهذه هى معادلة المرحلة الانتقالية. العناد والإنكار أسقط الرأس، وأجبره على الرحيل بعد أن لاح شبح شاوشيسكو له ولزوجته التى وقفت المروحية لتحضر شيئا نسيته فى القصر الصغير مقر الإقامة العائلية. عالم كامل انهار أمامها بعد أن أُغلقَت الطرق ووصل صوت المتظاهرين إلى القصر وأوصل الجيش رسالته: لن نمنع أحدا من الدخول إلى القصر. الجيش كان يريد إعادة بناء جسم النظام بقطع الرأس، وهذه عملية معقدة لم تتكشف ملامحها كاملة إلا بعد مرور سنة، حيث تهشمت خرافة «الجيش والشعب إيد واحدة»... مع جولات المواجهة بين المجلس والثورة، وبعد أن استخدم الجيش كل أسلحته من الحيلة والاحتواء إلى العنف إلى درجة التوحش. الجيش تصور أن الثورة هى فرصة لبناء رأس جديد للنظام.. معتمدا على القوة المعنوية للجيش عند الشعب.. وتصرف المجلس كما يملى عليه العقل السلطوى، سندلل الشعب ونقول فيه كلاما عظيما حتى يطمئن ويعود إلى النوم... لكن المجتمع تَغيّر، وُلدت فيه قوى ربيع حقيقى، لا تقبل العودة إلا بعد تحقيق الحلم القصى، قوى لا ترسم خيالها على قدر لا يزعج السلطة، قوى قادرة على تجميع هوامش المجتمع، ضحايا سياسات التسلط التى طردت من رحمتها قطاعات لا تُحصَى، وأصبحت الثورة بميدانها الرحب، وطاقتها المتمردة على الاستبداد، فضاء متسعا لهؤلاء المهمشين. الثورة إذن لم تمُت، لكنها لا تملك القوى التى تستطيع أن تحسم بها المعركة وتنتصر وتحكم وتغيِّر النظام تماما. الثورة ما زالت فى الشوارع، تتجول بروح لا يعرف الهزيمة، وإن عرف الضيق والغضب والإحباط، لكنه نشر ثقافة جديدة تصل إلى أماكن لا يمكن تخيلها، وهذا ما يُفقِد الأطراف الأخرى القدرة على الحسم. المجلس يملك القوة، لكنه ليس قادرا على الحسم، والإخوان المسلمون حصلوا على أغلبية مقاعد البرلمان، لكنهم لا يملكون القدرة على الحسم. هذه إذن الدائرة التى تتحرك فيها السياسة فى مصر، لا أحد قادر على الحسم، والمستقبل مرهون بنمو قوى الثورة فى إطار شَغلها الفراغ السياسى.