الثورة ماتت. سُرقت. انتهت. ضاعت. تسمع هذه الأوصاف، ويتبعها مصمصة شفاه مع تطويل حزين لمقولة «خسارة يا ثورة». وهذا كلام عجيب، لأن مصر تغيرت فعلا، تحركت من حالة التجميد، بما فى الجليد من تحجر وقصور وغياب تقاليد العمل السياسى. وهذا ما يجعل البعض يتصور السياسة غزوة، سينشر بها أفكاره، أو انقلابا يقيم به دولة على مزاجه، أو من يريد العودة إلى جمهورية 23 يوليو. الثورة حررت المجال السياسى، بما يعنى أنها وضعت كل هذا (الغزوة والانقلاب والعودة) فى محك الاختبارات الكبيرة، بمعنى آخر وضعت الجميع فى مأزق. تحطمت أوهام وخرافات لم يكن أحد يتوقع تحطيمها فى 10 أشهر فقط. هل كان أحد يتصور أن الفلول أو الجهاز السياسى لنظام مبارك، وطليعته قادة الحزب الوطنى، تنحسر فاعليتهم كما بدا فى الجولة الأولى من الانتخابات؟ الفلول كانوا فزاعة الانتخابات، رغم أن المتأمل سيرى الحزب الوطنى ليس حزبا، وفاعليته ترتبط بوجود الرئيس الذى يدير ماكينة المصالح الكبرى، ومع اختفاء مبارك خفيت الفاعلية، إلى درجات لا تجعل للفلول وجودا إلا فى وعْى مرعوب من لحظة غدر تنقض فيها الثورة المضادة على الثورة. هذه اللحظة لم تأت، والثورة المضادة فعالة لكن ليس وحدها، الثورة تتحرك، وقوتها فعالة إلى درجات لا يصدقها الثوار أنفسهم. وكما حدث مع الفلول، واجهت الثورة أسطورة العسكر، أمل الأمة فى التخلص من مبارك قبل 25 يناير، حين كان المجتمع يعانى عجزا مزمنا، ولا يتصور أنه يستطيع كسر رقبة الديكتاتور. انتظر الشعب العسكر ليغيروا، واسترقوا السمع طويلا ليعرفوا ما يدور فى الغرف المغلقة، لكن الجنرالات آثروا السلامة، أو اتباع دائرة مصالحهم وانتظروا حتى فعلها الشعب. المجلس العسكرى ارتبك إذن، ماذا يفعل مع مجتمع غادر غرف النوم وقرر المشاركة فى صناعة المستقبل؟ المجلس تصرف كما يُملى عليه العقل السلطوى، سندلل الشعب ونقول فيه كلاما عظيما حتى يطمئن ويعود إلى النوم.. لكن المجتمع تغير، ولدت فيه قوى ربيع حقيقى، لا تقبل العودة إلا بعد تحقيق الحلم القصىّ، قوى لا ترسم خيالها على قدر لا يزعج السلطة، قوى قادرة على تجميع هوامش المجتمع، ضحية سياسات التسلط التى طردت من رحمتها قطاعات تعد ولا تحصى، وأصبحت الثورة بميدانها الرحب، وطاقتها المتمردة على الاستبداد، فضاء متسعا لهؤلاء المهمشين. الثورة، إذن، لم تمت، لكنها لا تملك القوى التى تستطيع أن تحسم بها المعركة وتنتصر وتحكم وتغير النظام تماما. الثورة ما زالت فى الشوارع، تتجول بروح لا تعرف الهزيمة، وإن عرفت الضيق والغضب والإحباط، لكنها نشرت ثقافة جديدة تصل إلى أماكن لا يمكن تخيلها، وهذا ما يُفقد الأطراف الأخرى القدرة على الحسم. المجلس يملك القوة، لكنه ليس قادرا على الحسم، والإخوان المسلمون سيحصلون على أغلبية مقاعد البرلمان، لكنهم لا يملكون القدرة على الحسم. هذه، إذن، الدائرة التى تتحرك فيها السياسة فى مصر، لا أحد قادر على الحسم، والمستقبل رهن بنمو قوى الثورة فى إطار شغلها للفراغ السياسى. مرهون أيضا بوعْى الإخوان المسلمين أنْ لا حَلَّ لمأزقهم إلا بمزيد من الانضمام إلى الكتل المدنية، بما فى ذلك من تحالف حقيقى، يفتح طاقات الإخوان على قوى وأحزاب، يمكنها أن تسهم فى عبور نفق المرحلة الانتقالية وتبنى قواعد لتداول السلطة. المستقبل رهن، أخيرا، بتوقف محاولات المجلس العسكرى فى محاولة امتصاص الثورة أو تأميمها أو شيطنتها، لأنها جميعا، آلت إلى الفشل، بعدما أحدثت جروحا وآلاما لا تُنسى. الثورة، إذن، ما زالت فى الملعب. أذكّر كلّ من يقول: «خسارة يا ثورة» بأننا قبل أقل من عام كنا نحاول تخيل ما يحدث فى الغرف المغلقة.. والآن المجتمع فى هذه الغرف بعد فتحها بالقوة.