«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل قامت ثورة في مصر حقا أم انقلاب عسكري...الجزء الثاني
نشر في الواقع يوم 03 - 01 - 2012


بقلم د. عادل عامر
حركة شبابية
فى 25 يناير 2011 انفجرت حركة شبابية احتجاجية سرعان ما تحولت إلى ثورة سياسية شعبية هائلة شارك فيها عشرات الملايين من المصريِّين فى جميع أنحاء البلاد، على مدى أسابيع وتجاوزت الأسابيع إلى الشهور (وقد تتجاوز الشهور إلى الأعوام)، وطالبت بإسقاط نظام مبارك ومحاكمته هو وأسرته ورجاله وحل حزبه الوطنى الديمقراطى ومجلسىْ الشعب والشورى ورفع حالة الطوارئ واستقلال القضاء وتطهيره وتطهير البلاد من الفساد والاستبداد وإطلاق الحريات الحزبية والنقابية والصحفية والتظاهر والاعتصام والإضراب ووضع حدَّيْن أدنى وأقصى للأجور فى البلاد وغير ذلك. ونجحت الثورة فى الصمود فى مواجهة كل الأجهزة الأمنية لوزارة الداخلية وكافة الأجهزة المخابراتية التي امتشقت السلاح ونزلت إلى الميادن والشوارع لقمع الثورة ونجحت فى النهاية فى هزيمتها واكتساحها مما أدى إلى انسحاب الشرطة ونزول القوات المسلحة والحرس الجمهورى وغير ذلك. ورغم الحدود القصوى للقمع من اعتقال وقتل بالجملة وإصابات بالآلاف ورغم تجنيد البلطجية والمساجين الذين فُتحت بوابات سجونهم ورغم الهجوم الإعلامي البالغ الشراسة، كان من النجاحات الكبرى للثورة عودة الروح إلى الشعب المصري واختراق وكسر حاجز الخوف، والإطاحة ب مبارك ووضع حدّ بالتالى للتمديد والتوريث فى مصر والعالم العربى والعالم الثالث والعالم كله (بالطبع وبلا جدال بالتكامل مع ثورة تونس وبقية الثورات العربية وليس كعمل مصرى خالص كما تزعم دعاوى تتورط فى نظرة شوڤينية بغيضة تعمل على إبراز الدور المصرى على حساب دور شعوب عربية أخرى سبقتنا إلى الثورة أو جاءت بعدنا)، وكذلك تعرية المدى المفزع للفساد والاستبداد فى عهد مبارك أمام الشعب المصرى والشعوب العربية وشعوب العالم كله. وفى مواجهة الثورة الشعبية ولحماية النظام و مصالح الطبقة المالكة قام المجلس الأعلى للقوات المسلحة بانقلاب عسكرى (وهو انقلاب قصر أىْ من داخل النظام ولمصلحته ولحمايته من الشعب والثورة) أجبر مبارك على التنحى واضطر تحت ضغط شعبى هائل إلى إرساله هو وأسرته وحلقة ضيقة من رجاله إلى الإقامة الجبرية وإلى السجن وإلى المحاكمة فى نهاية المطاف.
الرفض الشعبي للحكم العسكري
وقد جاء الانقلاب العسكري بالمجلس الأعلى إلى السلطة بعيدا عن كل شرعية دستورية أو ثورية، فقد استند إلى تفويض غير دستورىّ من جانب الرئيس المخلوع وفقا للجملة التالية لجملة تخلِّيه عن منصبه! وحتى بدون استقالة رسمية وخلافا للترتيبات الدستورية فى مجال خلافة الرئيس المستقيل. ولم يكن هناك بالطبع تفويض للمجلس الأعلى من جانب الثورة، بل كان هناك الرفض الشعبى للحكم العسكرى ومطالبة حاكم الأمر الواقع بالتخلى عن السلطة وتسليمها لمجلس رئاسى انتقالى توافقى. والحقيقة أن المجلس الأعلى استند إلى شرعية أضفاها بنفسه على نفسه من واقع قيامه بالانقلاب العسكرى الذى حوَّله إلى حاكم الأمر الواقع، مع سيل من تأكيدات ووعود العودة إلى الثكنات فور تسليم السلطة لرئيس منتخب فى أقرب وقت، مع النية المبيَّتة (التى تشهد عليها شواهد وتدل عليها دلائل) على الحكم فى نهاية المطاف من وراء الكواليس مهما كانت توجُّهات الپرلمان ومهما كانت توجُّهات الرئيس المنتخب. ورغم بداهة مجيئ المجلس بانقلابه إلى السلطة لحماية النظام أطلق دعاوى واسعة بأنه إنما جاء لحماية ثورة الشعب مع بداهة أن الثورة الشعبية العزلاء أقوى "عسكريا" من كل جيش بدليل أن معظم الثورات الناجحة فى أىّ مكان فى العالم انتصرت من خلال مواجهات مريرة مع جيوش قوية تضربها بكل قوتها. ولأنه حمى الثورة كما زعم فقد اعتبر نفسه عاملا حاسما من عوامل نجاح الثورة وسرعان ما قفز إلى اعتبار نفسه الثورة ذاتها وصار لسان حاله يقول "نحن الثورة"! وعلى هذا الأساس أخذ يحكم بالفرمانات مع اضطراره إلى أخذ ضغوط الثورة فى المحل الأول من الاعتبار كلما اشتدت تلك الضغوط وهدَّدتْ بالمزيد من التصعيد. وكان من المنطقى والحالة هذه أن تتوالى فرمانات المجلس الأعلى الذى قرر ونفذ إجراءات بالغة السلبية منها تعديل مواد الدستور التى طالب الرئيس المخلوع قبيل خلعه بتعديلها وبعد قيام لجنة دستورية من تعيين المجلس نفسه بتعديل المواد المعنية طرحها دون مناقشة شعبية واسعة للاستفتاء وبإقرارها (بإقرار تعديلات على دستور معطَّل كان المجلس نفسه قد قام بتعطيله!) حدَّد جداول زمنية تقريبية قريبة للانتخابات الپرلمانية والرئاسية وتوالت فرمانات هذا الباب العالي الجديد بعد التباطؤ المتواطئ فى مواجهة الضغوط الشعبية بحل مجلسي الشعب والشورى وحلّ الحزب الوطني مع التمسك العنيد بقانون الطوارئ وفرْض حالة الطوارئ، وتوالت كذلك فرماناته التى ظلت تتحدَّى مطالب الثورة وأهدافها ففرضت دون مناقشة ما يسمى بالإعلان الدستوري، وتعديل قانون الأحزاب وقانون تجريم التخريب (أىْ تعطيل الإنتاج بالتظاهر أو الاعتصام أو الإضراب أو التحريض على ذلك من خلال ما يسمَّى بالاحتجاجات الفئوية) فيما يُعَدُّ خطوة إلى الوراء بالقياس إلى عهد مبارك نفسه، وقانون مجلس الشعب، وقانون مجلس الشورى، وقانون الانتخابات الذى يجمع بين الانتخابات الفردية والانتخابات بالقائمة النسبية، وإعادة تقسيم الدوائر الانتخابية وغير ذلك. وتواصل قمعه الفكري والإعلامي للثورة وقمعه المباشر للثوار بالقتل والاعتقال والملاحقات والمحاكمات العسكرية، مع الاضطرار بطبيعة الحال إلى السكوت المؤقت أو تقديم تنازلات فى كثير من الأحيان أمام موجات عالية للثورة خشية المزيد من تصعيدها. وفى هذا السياق كانت المجزرة الأخيرة فى يوم 9-9 التى قُتِل فيها أربعة أو خمسة من الثوار وجُرِح أكثر من ألف دفاعا عن السفارة الإسرائيلية البغيضة والجدار الأسمنتى المبنى لحمايتها من الثورة. وهناك دعوى يروَّجها المجلس الأعلى للقوات المسلحة مؤداها أنه يوجد بين قوى الثورة مَنْ يعملون على الوقيعة بين الجيش والشعب، ويجرى تهديد هؤلاء بالويل والثبور وعظائم الأمور على أساس أن الجيش خط أحمر. لقد اعتدنا من العهود الديكتاتورية الثلاثة البائدة اتهام كل مَنْ يهاجم القيادة السياسية، أىْ عبد الناصر أو السادات أو مبارك، بأنه يهاجم مصر وشعب مصر. ونحن هنا أمام طبعة جديدة من نفس الأسطورة. والحقيقة أن الشعب والجيش شيء واحد، هما نفس الشيء الواحد، لأن الجيش بجنوده وصف ضباطه وضباطه هم إخوتنا وأبناؤنا وفلذات أكبادنا، ولا يكاد يوجد بيت فى مصر لم يدخل فرد أو أكثر من أفراده القوات المسلحة المصرية فى وقت من الأوقات فى عمر التجنيد أو عند استدعاء أو من خلال الكليات أو المعاهد العسكرية، ويعنى مقتل أحدهم فى حرب خارجية أو داخلية تعاسة أسرة مصرية واحدة على الأقل، ومن هنا فإنه لا معنى لأىّ حديث عن إحداث وقيعة يرتكبه الثوار بين الجيش والشعب فهما ليسا فقط "يدًا واحدة" كما يقال بل هما شيء واحد. ولا شك بطبيعة الحال فى أن الدولة تستخدم الجيش ليس فقط للدفاع عن حدود البلاد بل تستخدمه أيضا للقمع الداخلي عند الضرورة (وهذا ما تفعله كل الدول فى كل زمان ومكان حيث تستخدم جيوشها للدفاع وكذلك للعدوان على بلدان وشعوب أخرى من خلال الغزوات والفتوحات تحت دعاوى أيديولوچية شتى وفى الحقيقة دائما لتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية وعسكرية كما تستخدمها لقمع الشعب عندما تعجز الشرطة عن قمعه).
بشرعية الانقلاب العسكري.
ويعنى هذا أننا لسنا من السذاجة بحيث لا ندرك وظيفة الجيوش بوجه عام، غير أن الوقيعة يستحيل أن تأتى من الشعب أو من قواه الثورية. والحقيقة أن محاولات الوقيعة تأتى فى حالتنا المصرية ممن يستخدمون الجيش ضد الشعب أىْ من الدولة بقيادة مبارك فى السابق والمجلس الأعلى فى الوقت الحاضر، وهم يستخدمون دعاوى الوقيعة للإيقاع بالثورة وتشويه صورتها لدى الشعب الذى يدرك أنهم هم الذين يستخدمون الجيش ضد الشعب، وأنهم هم دعاة الوقيعة، وأنهم هم الذين يحاولون بطرق شتى اتهام الثورة بجريمة محاولة الوقيعة التى يمارسونها هم، وذلك بهدف تشويه صورة الثورة وبالتالى تسهيل توجيه الضربات إليها. كما ينبغى التمييز بوضوح بين المجلس والجيش فالمجلس هو القيادة العسكرية العليا التى ترتبط مصالحها بصورة لا تنفصم بمصالح الطبقة المالكة والدولة والنظام وهم رجال مبارك العسكريون، ولا حاجة بنا إلى التذكير بأن العلاقة بين الجيش وقيادته العسكرية المتمثلة فى المجلس الأعلى مماثلة للعلاقة بين الشعب المصري والقيادة السياسية المتمثلة فى شخص مبارك فى السابق وفى المجلس الأعلى حاليا من حيث كونه القيادة السياسية كأمر واقع وبشرعية الانقلاب العسكرى.
الإسلام السياسي
ومن هنا فإن المجلس العسكري ليس الجيش كما أن مبارك سابقا لم يكن الشعب ولا مصر كما أن هذا المجلس حاليًّا ليس الشعب وليس مصر وليس الجيش. والحقيقة أن خرافة قيام الثورة أو الثوار بمحاولات إحداث وقيعة بين الجيش والشعب لا يروِّجها المجلس وحكومته وإعلامه وصحافته فقط بل تروِّجها كذلك وبإلحاح قوى الإسلام السياسي من إخوان مسلمين وسلفيِّين وغيرهم، فى محاولة بائسة لتشويه صورة أنصار الدولة المدنية والعلمانيِّين والليبراليِّين اليساريِّين، وكذلك لتوثيق علاقاتهم بالمجلس العسكرىّ وتوابعه وحلفائه من القوى السياسية. ويهدف المجلس الأعلى إلى قطع الطريق على استمرار الثورة عن طريق خلق أمر واقع جديد بأقصى سرعة ممكنة، ومن هنا كانت إستراتيچيته المبنية فى أعقاب انقلابه العسكرى، تلك الإستراتيچية التى تمثلت فى سرعة إجراء التعديلات الدستورية والاستفتاء عليها وإعلان مواعيد قريبة للانتخابات الپرلمانية والرئاسية بتجاهل عنيد لإرادة الشعب، ثم إصدار فرمانات ومراسيم فوقية دون استشارة أحد فى قضايا بالغة الحساسية بالنسبة لتطور الثورة.
شرارة الثورة
وقد انتهج سياسة أقصى السرعة حيث يكون الزمن الكافى مطلوبا من جانب قوى الثورة الناشئة، وذلك لإنضاج الإجراءات والتطورات الفوقية اللاحقة بهدف استعادة نظام مبارك بدون مبارك حتى لا يقف تطور ونضج الأحزاب والحركات الجديدة عقبة دون ذلك، كما انتهجت سياسة أقصى التباطؤ المتواطئ حيثما حاولت الاستفادة من مرور الوقت لتفادى إجراءات لا تريد اتخاذها (نزولا عند إرادة الثوار) حتى يتسنَّى لها خلق الواقع الجديد على هواه من خلال الاستفتاء والقوانين اللازمة للانتخابات وكافة أنواع الفرمانات. وقد انتهج إستراتيچية التباطؤ بصورة خاصة عندما كان يلائمه أن يترك مبارك وأسرته ورجاله وغيرهم من كبار المسئولين وأجهزة الأمن وأفراد الطبقة المالكة بلا أىّ إجراءات ضدهم لتمكينهم من ترتيب أوضاعهم على كافة المستويات: تهريب أموالهم إلى أماكن آمنة، وإخفاء وإحراق وفَرْم الوثائق التى تُثْبِت جرائمهم، على أمل ترك كل شيء على حاله إذا انحسرت الثورة وتراجعت خلال فترة التباطؤ المتعمَّد. وكانت حالة قوى الثورة تشجِّع المجلس العسكرى على انتهاج "سياسة فَرِّقْ تَسُدْ" ضمن إستراتيچياته وتكتيكاته فى مواجهة الثورة. ويمكن وصف تلك الحالة قبل كل شيء بأن مختلف القوى كانت لها أهداف مختلفة. فهناك أولا أولئك اللذين أشعلوا شرارة الثورة وهم كما يوصفون عشرات الآلاف من شباب الفيسبوك وقد نجحوا فى ذلك بإلهام سبب مباشر هو كسر حاجز الخوف من النظام الحاكم فى تونس فقد جاءت انتفاضة 25 يناير 2011 ليس بعد اندلاع الثورة فى تونس فقط بل بعد نجاحها فى إسقاط زين العابدين بن على وأسرته فى 14 يناير 2011 بعد اندلاع الثورة التونسية فى 18 ديسمبر 2010 بحوالى شهر وكان قيام طارق الطيب محمد البوعزيزي فى 17 ديسمبر 2010 بإحراق نفسه حتى الموت الشراة الأولى للثورة التونسية وللثورات العربية جميعا. وما كان لشباب الفيسبوك أن ينجحوا فى ذلك لولا عوامل أخرى لم يكونوا مقطوعى الصلة بها خلال العقد السابق للثورة، وبالأخص فى الأعوام الأخيرة جنبا إلى جنب مع قطاعات من عمال مصر وبالأخص عمال المحلة الكبرى ومن موظفى الدولة وبالأخص موظفى الضرائب ومع حركات سياسية واجتماعية لعل أبرزها حركة كفاية وحركة 6 أبريل. وكانت كل القوى اليسارية والمدنية والعلمانية بمختلف أطيافها ومنها حركة شباب الفيسبوك بمختلف تياراتها، كما تبين فى أعقاب اندلاع الثورة مباشرة، فى حالة من التشرذم والافتقار إلى الوعى فى زمن الثورة، وكان هذا بالطبع هو الثمرة المرة لستة عقود متواصلة من تصفية وتجريف الحياة السياسية وخنق وسحق المعارضة الحقيقية وتحويل معارضة الأحزاب التقليدية إلى ديكورات لخلق انطباع زائف بالتعددية التى يتزين بها نظام الحزب الواحد المموَّه والمقنَّع باسم تحالف قوى الشعب العاملة فى زمن الاتحاد الاشتراكى فى عهد عبد الناصر والقسم الأول من عهد السادات ثم المنابر والأحزاب المتعاونة مع النظام والتابعة له فى عهدىْ السادات و مبارك. وكان انضمام مختلف طبقات الشعب بالملايين وعشرات الملايين والشعب كله فى الحقيقة، باستثناء قلة من المستفيدين بالنظام بالإضافة إلى النظام ومختلف مؤسساته وأجهزته وفلول حزبه الوطنى وبلطجيته، هو الذى حوَّل الانتفاضة إلى ثورة شعبية شاملة كانت ثورة سياسية بامتياز. ولا أعتقد أن من الصواب تسميتها بثورة الطبقة المتوسطة أو الوسطى فلا يمكن لانضمام حتى كثرة من الشباب المتعلم من أبناء طبقة متوسطة أو عليا أن تحدد طابع الثورة أو طبيعة طبقة اجتماعية تقف وراءها لأننا لا نرى أصلا طبقة متوسطة ثورية أو ثائرة الآن فى مصر ضد النظام ولأن التغطية الاجتماعية والسياسية للثورة المصرية الراهنة بما جعلها ثورة حقيقية جاءت وما تزال تأتى من دور مختلف الطبقات الشعبية فى البلاد مهما كان الشباب يمثلون فصيلا متميزا واستثنائيا، بطوليا وباسلا، من فصائل الثورة. ولا يتسع المجال هنا للحديث عما رشَّح شباب الفيسبوك لِلَعب هذا الدور الكبير وعن طبيعة الشباب فى زمن التكنولوچيات المتقدمة للمعرفة والمعلومات لدى جيل الألفية generation y فى العالم كله والذى يتميز فى العالم الثالث بالنسبة المرتفعة للشباب من الناحية الديموجرافية. ولا يتسع المجال كذلك لاستعراض حقيقة أن التقلص النسبى لعدد المنضمين إلى المظاهرات والاعتصامات فى ميادين وساحات التحرير فى مصر لا يعنى انفضاض الشعب بمختلف طبقاته عن الثورة بقدر ما يشير إلى تعدد الوسائل والأدوات والطرق والأساليب النضالية للثورة حيث تنتقل أقسام وأنشطة ثورية إلى أماكن أخرى وتكفى الإشارة هنا إلى الاحتجاجات "الفئوية" (المطلبية) الواسعة النطاق والانتشار والتى تقض مضاجع القيادة السياسية والعسكرية المندمجتين فى شخص المجلس الأعلى للقوات المسلحة، تلك الاحتجاجات، فى المصانع والشركات الإنتاجية والخدمية والنقابات العمالية والمهنية والمؤسسات الإعلامية والجامعات وحتى بعض المصالح الحكومية العادية بهدف إقالة قياداتها المنتمية فكريا وسياسيا إلى النظام السابق وتطهيرها من الفساد، والتى يسميها المجلس بالاحتجاجات الفئوية متصورا أن ما يسميه بفئويتها، زاعمًا أن دوافعها أنانية فئوية بعيدا عن المصلحة الجماعية للثورة والبلاد، يبرَّر تجريمها وقمعها مع أن هذه الاحتجاجات ليست سوى الممارسة الطبيعية الوحيدة للحقوق الدستورية للمواطنين المصريِّين؛ وهكذا يجرى الإقرار بهذه الحقوق والحريات دستوريًّا بصورة منافقة مع تجريمها قانونًا وفقا للسُّنَّة المتبعة للدساتير المصرية التى يجرى تقييد كل الحريات والحقوق فيها بشرط كونها فى حدود القوانين التى يتفنن ترزيتها فى "تفصيلها" بما يؤدى إلى تفريغ النصوص الدستورية من مضمونها. وبحكم حدود وعى الطليعة الشبابية وطبيعة حالة وعى الجماهير الشعبية غرقت الثورة فى حالة من التلقائية والعفوية وعدم الإدراك الكافى من الثوار لطبيعة ثورتهم وطبيعة أهدافها والتصور الواضح لمسارها وسيرورتها وخط تطورها، والوقوع بالتالى فى أشكال متنوعة من التخبط والعشوائية والارتباك، وذلك فى وقت لزم المثقفون اليساريون والتقدميون فيه الصمت الرهيب والمريب فى كثير من الأحيان، رغم الدور البارز للمثقفين المصريِّين بوجه عام فى الثورة الراهنة قبل اندلاعها وبعد تفجُّرها وإلى الآن، وفى وقت تؤدِّى فيه المواقف الخيانية والانتهازية للقوى اليمينية، القوى المتنوعة للإسلام السياسى والليبرالية الرأسمالية ومثقفى وكُتّاب وإعلاميِّى هذه القوى، إلى إرباك القوى الحقيقية للثورة وتشويش وعيها وتشويه صورتها. وقد جعلت هذه الخصائص للطليعة المتنوعة للقوى الحقيقية للثورة من السهولة بمكان تضليلها وجرَّها إلى التفاوض والمشاركة فى مناسبات مختلفة مع جهات مختلفة للنظام واحتدام خلافاتها فى كثير من الأحيان بما يؤدِّى إلى شقّ صفوفها فى بعض الأحيان. كما أدَّتْ هذه الخصائص لهذه الطليعة الثورية إلى عدم قدرتها على بلورة موقف صحيح مستقر مهما كان ديناميكيًّا إزاء قوى اليمين التى شاركت فى الثورة فى مرحلة من مراحلها وانتقلت إلى صفوف الثورة المضادة فى المراحل التالية بعد أن كانت تتخذ موقفا سلبيا فى مرحلتها المبكرة. ولهذا تنتقل القوى الأكثر إخلاصا للثورة حتى النهاية من موقف حاسم ضد الإخوان المسلمين فى لحظة إلى موقف المطالبة بتوحيد "كل" قوى الثورة والتحالف مع الإخوان والإسلام السياسي فى لحظة أخرى وفقا لمناورات الإخوان وتذبذبات علاقاتهم مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة. وينقلنا هذا إلى موقف الإخوان المسلمين وبقية قوى الإسلام السياسي مثل السلفيِّين الوهابيِّين والجماعة الإسلامية، وعلى الهامش مواقف الأحزاب الليبرالية التقليدية والجديدة القديمة التى تمثل بصورة مزدوجة ذيلا لكلًّ من النظام والإخوان المسلمين وفقا للأحوال المتغيرة. وإذا نظرنا من زاوية طبيعة معارضة القوى المشاركة فى الثورة لنظام مبارك خلال الثورة الراهنة فى عهد مبارك وفى عهد نفس النظام بقيادة المجلس الأعلى فى فترة ما بعد مبارك، سنجد موقفيْن أساسيَّيْن مختلفيْن إزاء الثورة فهناك قوى لها أهداف ثورية مخلصة حتى النهاية ضد الفساد والاستبداد ومع الديمقراطية والاستقلال الوطني الحقيقي وهناك قوى لها مآرب أخرى من الثورة. وإذا عُدْنا بالذاكرة قليلا إلى الوراء، تاركين جانبًا التاريخ الطويل للإخوان المسلمين أيام الإنجليز والقصر الملكى ثم أمريكا و السادات، سنجد تاريخا من الصفقات التى تناوبت الدور مع المعارضة فى عهد مبارك. وفى العقد الأخير، الأول فى القرن الحادى والعشرين، كانت هناك صفقة الانتخابات الپرلمانية فى 2005 وغيرها، غير أن الانتخابات الپرلمانية فى أواخر سنة 2010 جاءت فى أوضاع مختلفة أصيب فيها نظام مبارك بجنون المدّ والتوريث ولم يحسب الحسابات المعقدة للطريق الذى اختاره (والسبب الرئيسى لهذا الجنون هو أن الرؤساء اللصوص والفاسدين والقتلة فى العالم الثالث لن يفلتوا دون عقاب على جرائم فسادهم وجرائمهم ضد الإنسانية فى حالة الخروج الدستوري من السلطة)، وعقد العزم على إقصاء كل القوى السياسية وفى مقدمتها الإخوان المسلمين أو الجماعة المحظورة التي اختصرتها أبواق الدعاية المباركية بوقاحتها المعهودة إلى "المحظورة"، مع أنها كانت القوة الوحيدة "غير المحظورة" من الناحية العملية بل كانت المستفيدة الأولى إنْ لم تكن الوحيدة من الناحية الفعلية بديمقراطية السادات و مبارك. وبالتالي جرى التنكيل بالإخوان المسلمين فى انتخابات 2010 وإقصاؤهم بالكامل، والمهم فى سياقنا الحالى هو أن الإخوان المسلمين لم يحركوا ساكنا مكتفين بالشكوى المريرة خوفا من المزيد من الاستهداف والتصعيد ضدهم من جانب النظام. وكان هذا الموقف ذاته هو الذى دفعهم إلى اتخاذ موقف سلبى إزاء الثورة فى أيامها الأولى ولم يتغيَّر هذا الموقف إلى موقف المشاركة الإيجابية إلا بعد الحصول على ضمانة بليغة وإنْ كانت ضمنية بأن الإسلام السياسي سيكون فى حماية ثورة الشعب عندما انفجر بكامله فى ثورة عارمة. وتفرض علينا الموضوعية والشفافية الاعتراف بصورة مزدوجة بأن الإخوان المسلمين قد نجحوا فى تقوية الثورة وكذلك فى تقوية أنفسهم بالثورة، فاكتسبوا لدى نظام مبارك شرعية جعلتهم يتخلَّوْن عن الثورة ويهرولون إلى المفاوضات التى فتح النظام لها مزادات كبرى جرَّتْ الإخوان ومعهم الأحزاب القديمة وعناصر من تيارات شباب الثورة ذاتهم. وعلى هذا النحو انصرف الإخوان إلى التفاوض مع نظام مبارك الذى كان ما يزال على رأس السلطة وإنْ كان يترنَّح آيلا للسقوط. ومن الموضوعية أن نعترف بأن الإخوان لم يتخلَّوْا عن الثورة أىْ التظاهر والاعتصام تحت شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" بصورة كاملة إلا عند إعلان تخلِّى مبارك عن منصبه كرئيس للجمهورية، رغم تخلِّيهم عنها من حيث المبدأ بإسراعهم إلى التفاوض مع الإبقاء على مشاركتهم فى الاحتجاج والتظاهر والاعتصام فى سبيل إحاطة المفاوضات بضغط الثورة. وهنا ينبغى أن ندرك أن الإخوان المسلمين انضموا إلى الثورة ليس لمواصلتها إلى النهاية بل فقط لإسقاط مبارك وأسرته وحلقة ضيقة من رجاله المباشرين والحصول على شرعية لدى الشعب ولدى رجال مبارك المباشرين الذين انهمكوا فى التفاوض معهم (عمر سليمان) ولدى المجلس الأعلى بعد انقلابه، لعقد صفقة سقفها غزو السلطة وحدها الأدنى الشرعية والقوة العددية لعضويتهم فى الپرلمان. ولماذا هذا الاستعداد لدى الإخوان المسلمين للتسليم بنظام مبارك بدون مبارك؟ لأنهم "البازار" المصرى، أىْ لأنهم الممثلون السياسيون لقطاع مهم من الطبقة المالكة ولا يهمهم القضاء المبرم على الفساد والاستبداد، ولا شعارات "مستوردة" مثل الديمقراطية والمدنية، بقدر ما تهمُّهم المشاركة فى النظام كقوة پرلمانية إنْ لم ينجحوا فى تشكيل حكومة أو الفوز برئاسة الجمهورية. والحقيقة أن الهزائم التى مُنِىَ بها الإخوان المسلمون خلال الستين عاما الماضية شلَّ خيالهم عن تصوُّر مكاسب كان يمكن أن يجنيها لهم التصعيد ضد المجلس الأعلى ومواصلة الانضمام إلى قوى الثورة مهما كانت نواياهم المستقبلية ضدها، وهى مكاسب كان من الممكن فى نظرى أن يرتفع حدها الأقصى حتى إلى التطلُّع إلى جمهورية إسلامية إخوانية وكان من الممكن ألا يقل حدها الأدنى عن مشاركة قوية فى تركيبة سياسية جديدة. لقد شلَّهم الخوف من
استهدافهم عن أىّ تورُّط واسع النطاق فى مغامرة مواجهة غير مضمونة العواقب على كل حال. وبحكم كونهم ممثلين سياسيِّين لقطاع من الطبقة المالكة فى مصر وبالتالى لكونهم قطاعا وإنْ متميزا من قطاعات النظام وكذلك بحكم أيديولوچياهم المعادية للديمقراطية والمدنية والعلمانية والمساواة التامة بين المصريِّين على أساس المواطنة، وبين الرجال والنساء بلا تفرقة على أساس النوع، كان لا مناص من أن يجدوا مكانهم الطبيعي فى صفوف الثورة المضادة. وقد عبَّرت مواقف الإسلام السياسي من إخوان وسلفيِّين ومواقف الأحزاب المتعاونة مع نظام مبارك بقيادة مبارك والسيدة الأولى وولىّ عهده ثم بقيادة المجلس الأعلى بكل بلاغة عن الموقف الواحد لمختلف قطاعات الطبقة المالكة إزاء الثورة باعتبارهم ممثلين أُصَلاء للنظام، نظام الطبقة المالكة، باعتبار أن النظام وحده هو الثورة المضادة بالضرورة. والحقيقة أن موقف الإخوان تمثَّل فى رفض كل مبادرات ومواقف القوى الحقيقية للثورة طوال الفترة المنقضية منذ إقصاء مبارك إلى الآن (رفض المظاهرات والاعتصامات والإضرابات وما يسمَّى بالاحتجاجات الفئوية، أىْ ممارسة الوسائل النضالية التى هى حقوق يكفلها الدستور، ورفض الاحتجاجات على التباطؤ المتواطئ من جانب المجلس الأعلى بذريعة منحه الوقت الكافى، وحتى رفض الاحتجاجات ضد إسرائيل أمام سفارتها والجدار الواقى لسفارتها فى مواجهة عدوانها الدامى الذى كان له شهداء مصريون عبر الحدود، بالإضافة إلى العمل المتواصل على تشويه القوى السياسية التى تواصل المبادرات الثورية واتهامها حتى بالعمالة لأمريكا والصهيونية غير منتبهين إلى تورُّطهم المباشر، هم وليس غيرهم، حتى فى الرفض المباشر لأىّ مبادرة ضد السفارة الإسرائيلية). وكان من المنطقىّ تماما أن تؤدى المواقف السياسية المتخاذلة فى زمن الثورة من جانب قيادة الإخوان المسلمين إلى الخلافات والانقسامات الداخلية بين شباب الإخوان والحرس الإخوانى القديم وحتى بين أفراد ومجموعات الحرس القديم ذاته بما يؤدى إلى تعدد أحزاب الإخوان وتعدد مرشحيهم المحتملين لرئاسة الجمهورية والرفض العملى لعدد من قرارات ومواقف مكتب الإرشاد من جانب شباب الإخوان؛ رغم أن هؤلاء الأخيرين لا يقلُّون التزاما بالأيديولوچيا الدينية-السياسية الإخوانية عن مكتب الإرشاد والحرس القديم. ولكنْ لماذا الخلافات داخل الإخوان المسلمين ما داموا يشكِّلون جزءًا من الطبقة المالكة والنظام الحاكم إستراتيچيًّا؟ والإجابة التى لا شك فيها، مع أخذ تبايُن الرؤى حتى داخل الطبقة الواحدة فى الاعتبار، هى أن الإخوان يتمثلون فى جماعة وأحزاب تجمع فى صفوفها مختلف طبقات المجتمع بمصالحها المتناقضة رغم وحدة الأيديولوچيا ورغم انتماء أغلب القيادات والكوادر وكبار المموِّلين إلى قطاعات من الطبقة العليا والمتوسطة. ولا مناص هنا من وقفة موجزة عند مفهوم وواقع الثورة المضادة. وتقترن الثورة المضادة مع التفجُّر العملى لثورة فعلية، وهى ردّ فعل النظام وحلفائه المحليِّين والإقليميِّين والعالميِّين على الثورة، وبالتالى فإنه لا توجد ثورة لا تقاومها وتحاربها ثورة مضادة، ولا يوجد نظام لا يتحول إلى ثورة مضادة عند اندلاع ثورة.
ثورة مضادة
وإذا كانت قوى الثورة الحقيقية تنتمى إلى ثورة ممكنة أو فعلية فإن النظام يمثل بدوره ثورة مضادة ما دام يعمل بصورة منهجية على تصفية كل نضال ثورى وإجهاض كل ثورة محتملة. وما دام النظام الحاكم بطبقاته المالكة وحلفائها هو الثورة المضادة فلا مجال إذن للتظاهر المضلِّل المريب بوجود أىّ التباس بشأن الثورة المضادة وقواها وأركان حربها، وهى تجمع فى حالتنا المحددة بين الدولة بكل مؤسساتها والنظام (بكل أركانه بما فى ذلك معارضته المتعاونة معه والمستعدة للتحالف معه والتى ترى أن الخطر الذى تمثله القوى الحقيقية المخلصة للثورة أخطر على مصالحها من النظام القائم) والطبقة المالكة والحزب الحاكم وكل الحلفاء المحليِّين ( الإخوان المسلمون وباقى قوى الإسلام السياسى والليبراليُّون اليمينيُّون) والإقليميِّين والعالميِّين. ومن هنا فإن الثورة المضادة فى مصر تشمل قوى متعددة تبدأ بالمجلس الأعلى وحكومته وأجهزة الأمن والحزب الوطنى الذى استحال إلى عدد من الأحزاب التى تنشأ الآن بقيادة أعداد من كوادره حيث رفض المجلس الأعلى عزل كوادر الحزب الوطنى، وهناك بالطبع الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة والرجعية العربية بقيادة السعودية. ورغم موقفه العسكرى المتصلِّب يرضخ المجلس الأعلى عندما يشتد عليه ضغط الثورة وتنهار مقاومته ويخشى مزيدا من التصعيد، وقد رأينا كيف استطاعت موجة 8 يوليو إجبار المجلس على وضع مبارك فى قفص الاتهام وتقديمه متَّهَمًا بقتل أبناء شعبه أمام الشعب وأمام العالم كله بصورة قضت على أىّ شك فى أنه سيلقى جزاءه المتمثل فى القصاص لشهداء الثورة تحت ضغط الثورة. كما وقف المجلس عاجزا عن التصرف إزاء الاحتجاجات ضد السفارة الإسرائيلية إلى أن أجبرته الضغوط الأمريكية والإسرائيلية القوية فى تلك الليلة على ارتكاب مجزرة. وقد حكمت قوى عديدة ومنها قوى ثورية مخلصة حكما سلبيا على هدم الجدار العازل أمام السفارة وبالأخص على اقتحام السفارة وتتناسى هذه القوى أن إسرائيل قتلت جنودا مصريين عبر الحدود وعجزت مصر المجلس الأعلى عن أىّ ردّ ولا أدرى كيف نطالب شعبا فى ثورة بأن يبقى هادئا فلا يقوم بأىّ مبادرة احتجاجية رغم الجريمة التى ارتكبتها إسرائيل ورغم استفزاز المجلس الأعلى للشعب بعدم الرد وكذلك ببناء جدار يحمى السفارة الاٍسرائيلية فى قلب القاهرة الكبرى. وكان من المنطقى أن يثير العدوان الإسرائيلى على حدودنا وجنودنا ردّ فعل عميق لم يقتصر على الاحتجاج الأول الذى تقرَّر بعد مواجهاته بناءُ الجدار العازل الاستفزازى الذى قاد إلى الاحتجاج الثانى عند السفارة وهدم الجدار وما تلا ذلك بل امتد إلى طرح معاهدة السلام بين إسرائيل ومصر (المعقودة فى 1979) للنقاش واحتدم الجدال بين المطالبة بإلغاء تلك المعاهدة والاكتفاء بالمطالبة بتعديل بعض بنوده لخدمة السلام بين مصر وإسرائيل (كما يُفْهَم من تصريحات عصام شرف). والحقيقة أن الموقف المبدئى من المعاهدة لا يحتاج إلى نقاش، ذلك أنه ينطبق على معاهدتنا مع إسرائيل المبدأ الذى نشأنا على ترديده بخصوص وعد بلفور "مَنْ لا يملك أعطى لمن لا يستحق"، فليس من حق مصر الاعتراف بقيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين التى لا تملكها مصر بالطبع، غير أن الموقف العملى اللاأخلاقى الذى قاد إلى عقد تلك المعاهدة كان يتمثل فى العجز عن مواجهة إسرائيل عسكريا وفى الضرورات الاقتصادية والاجتماعية التى دفعتْ السادات إلى الارتماء فى أحضان الولايات المتحدة الأمريكية بوجه خاص والغرب بوجه عام بالإضافة إلى الميل الطبيعى لدى الرأسمالية التابعة المصرية للتعاون والتحالف وحتى التكامل فى نهاية المطاف مع الرأسمالية العالمية وإسرائيل. وكان السادات يسير فى هذا المجال على طريق عبد الناصر الذى كان قد وافق على قرار مجلس الأمن رقم 242 وعلى وقف إطلاق النار على أساس مبادرة روچرز، وكان موقف كلٍّ من عبد الناصر و السادات و مبارك من بعدهما استمرارًا لموقف حركة 1952 إزاء إسرائيل. ذلك أنه كان هناك إدراك كامل لعجز النظام المصرى عن مواجهة عسكرية بهدف القضاء على إسرائيل وذلك لأسباب تتعلق ليس فقط بالقدرة العسكرية بل كذلك بالحاجة إلى أمريكا والغرب سياسيا واقتصاديا ولهذا تقرر عدم التفكير فى تحرير فلسطين جريا وراء الشعارات السائدة فى المنطقة آنذاك. غير أن مصر الناصرية كان عليها أن تواجه ليس إسرائيل فقط بل كذلك بريطانيا وفرنسا فى سياق مؤامرة العدوان الثلاثى، ووقعت الهزيمة العسكرية التى خفَّف منها الانتصار السياسى، وحَرَّرَ من الاحتلال الإسرائيلى لسيناء رفضٌ أمريكىٌّ حاسم لذلك الاحتلال كما اقتضت المصالح الأمريكية آنذاك فى سياق السلوك الملائم لأمريكا كقوة استعمارية جديدة تعمل على أن تحل محل الاستعمار القديم. وبعد قرابة عقد من الزمان وبالتحديد فى يونيو 1967 وقعت الهزيمة الكبرى التى لم يكن هناك ما يمكن أن يخفف منها أويحرِّر من الاحتلال الناشئ عنها. وتحت شعار "ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة"، جرى قبول وثائق التسوية مع الاستعداد لحرب تُحَرِّك عملية التوصل إلى السلام نشبت فى أكتوبر 1973. وبعد سنوات من تلك الحرب وفى أوضاع داخلية متأزمة وفى أعقاب انتفاضة 18 و 19 يناير 1977 الشعبية، بدأ اتجاه السادات نحو مبادرته التى انتهت بكامپ ديڤيد ومعاهدة السلام فى عام 1979. ونصَّت المعاهدة التى قايضت الأرض بالسلام على أساس قرارىْ مجلس الأمن 242 (22 نوڤمبر 1967) و 338 (22 أكتوبر 1973) على الاعتراف المتبادل وإنهاء حالة الحرب والحدود الآمنة والعلاقات الطبيعية مقابل الانسحاب الإسرائيلى على مراحل بالإضافة إلى قيود ثقيلة (وفقا للمادة الرابعة التى تجيز تعديل ترتيبات أمنية وردت فى الفقرتين 1 و 2 منها) على الوجود العسكري والأمني المصري في سيناء باعتبار سيناء بكاملها منطقة عازلة لحماية إسرائيل مع فتح قناة السويس ومضيق تيران وخليج العقبة أمام مرور السفن الإسرائيلية، ومع اشتراط موافقة مجلس الأمن بشرط إجماع الدول الخمس ذات العضوية الدائمة من خلال التصويت "الإيجابى" وبالطبع مع تمركز قوات ومراقبين من الأمم المتحدة فى سيناء، بالإضافة إلى حظر توقيع أىّ اتفاقية تتناقض مع هذه المعاهدة. ويدور الجدال الآن حول المفاضلة بين تعديل المعاهدة وإلغائها كليًّا. ويعنى ما سبق ضآلة ما يجوز تعديله وتفاهته وصعوبته وفقا للمادة الرابعة من المعاهدة. غير أن التخلص النهائى من هذه المعاهدة المشينة المفروضة على مصر بإلغائها النهائى هو الهدف الإستراتيچى للشعب المصرى، وعلى هذا الشعب أن يقوم بهذا دون إبطاء حالما تسمح به الظروف التى قد لا تتكرر فى مستقبل قريب. والحقيقة أن المعاهدة كانت قد فُرضت على مصر فى ظل أوضاع سياسية وإستراتيچية كانت قائمة فى مصر والعالم. كان هناك انسحاب مطلوب لا يمكن أن يتم بدون معاهدة "الأرض مقابل السلام"، وكان هناك تنافس إستراتيچى أمريكى سوڤييتى على المنطقة وقد انتهى الآن، والأهم أن إسرائيل كانت تُحارب بالأصالة وبالوكالة لإعادة دول المنطقة إلى الحظيرة الأمريكية وقد تحقق هذا الهدف بالفعل، ولم تَعُدْ الولايات المتحدة بحاجة إلى إعادة احتلال إسرائيل لسيناء لإعادة مصر إلى حظيرتها، فقد أُعِيدت مصر بالذات إلى تلك الحظيرة منذ وقت طويل، ومعنى هذا أن الولايات المتحدة التى لن تتخلى مطلقا عن إسرائيل وتوسُّعها لأنها الأكثر ضمانا من باقى دول المنطقة، لن تؤيد مع ذلك أىّ احتلال إسرائيلى جديد لسيناء ولا أىّ حرب جديدة تشنها إسرائيل على مصر، رغم أن خطاب الرئيس الأمريكى إلى رئيس الوزراء الإسرائيلى والمرفق بالمعاهدة يجيز لإسرائيل إعادة احتلال سيناء بمساعدة عسكرية أمريكية. وأعتقد أن رد فعل إسرائيل على إلغاء المعاهدة لن يتجاوز شن حملة دعائية واسعة ضد مصر مع مقاضاتها دوليًّا، خاصة وأنها تدرس عن كثب الحروب الأمريكية فى أفغانستان والعراق والأزمة مع إيران وحربها على لبنان وعلى غزة مع أىّ احتمالات لا يمكن استبعادها مع سوريا وتستخلص منها العِبَر الرادعة بالفعل. هذا تقديرى، غير أن خطورة وحساسية هذه المسألة تدعو إلى فتح مناقشة واسعة فى مصر ولفترة كافية حول مختلف التقديرات قبل اتخاذ أىّ قرار بإلغاء المعاهدة. فنحن لا ندعو إلى مغامرة مثل مغامرة عبد الناصر فى 1967 بل ندعو إلى التخلص من العواقب الوخيمة لتلك الحرب التى كانت هذه المعاهدة من نتائجها. على أنه ينبغى أن يكون واضحا أن أىّ قرار بإلغاء المعاهدة لن تتخذه الدولة المصرية دون ضغط شعبى هائل ومتواصل يجبرها على ذلك. وهناك بالطبع مَنْ يرون أن الثورة ينبغى أن تركِّز على تطوراتها وعملياتها الخاصة فلا ينبغى أن تشتت جهودها فى اتجاهات شتى لتحقيق أهداف يمكن تحقيقها بعد عدة سنوات، ويبدو أن مثل هذا الرأى ينطلق من تصوُّر مؤداه أن الثورة سوف تسيطر فى نهاية المطاف على السلطة فى مصر فى أجل قريب، غير أن هذا قد يكون أملا بعيد المنال. وقد يقول قائل إن إصرارى على المناقشة الواسعة والعميقة لمختلف التقديرات الخاصة برد الفعل الإسرائيلي والأمريكي قبل اتخاذ قرار بإلغاء معاهدة السلام يعنى أننى أضحِّى على المستوى النظرى بالموقف المبدئى ضد حق إسرائيل فى الوجود فى حالة وجود احتمال حرب إسرائيلية أمريكية جديدة ضد مصر بدلا من إلغائها فى كل الأحوال. وردِّى هو أن "ثورة" 1952 قد خلقت أمرا واقعًا جديدا بهزيمة 1967 والمعاهدة التى ترتبت عليها ولا يمكن التحرُّر من هذا الأمر الواقع عن طريق حرب تقود إلى هزيمة جديدة بالنظر إلى موازين القوة. ويقتضى هذا التحرُّر أحد أمرين إما انتهاز فرصة تاريخية كهذه التى أراها الآن بإلغاء المعاهدة على أساس هذا التقدير بأن هذا الإلغاء لن يؤدى إلى الحرب وإما الانتظار إلى أن تختلف موازين القوة لأنه لا ينبغى الذهاب إلى حرب بحثا عن هزيمة كما فعلت مصر فى 1967. على أننى لا أضحِّى بأىّ موقف مبدئى فمن الواضح أننى أدعو هنا على العكس إلى إلغاء المعاهدة على أساس تقدير محدَّد.
الدستور والاستقلال
: ونعود إلى أسئلة الثورة المتعلقة بتطوراتها الجارية فى الوقت الحالى. ونؤكد من جديد على أن مصر تنطوى على مشكلتين كبريَيْن هما الدستور والاستقلال. وأعنى بالدستور الديمقراطية من أسفل بكل قدرتها على المقاومة والنضال ضد التبعية الاستعمارية واستغلال وديكتاتورية الرأسمالية التابعة. وأعنى بالاستقلال التحرُّر من التبعية الاستعمارية عن طريق تحويل مصر إلى بلد صناعى حقا باعتبار هذا التحوُّل مفتاح الاستقلال ومفتاح التقدم ومفتاح التحديث ومفتاح اللحاق بالعصر ومفتاح خطوة كبرى لاحقة نحو ديمقراطية راسخة. وأعتقد أن على الثورة فى سياق نضالها الذى تتشابك فيه فى كل لحظة أهداف الديمقراطية والاستقلال أن تميِّز تحليليًّا وعمليًّا بين هاتين المشكلتين الأساسيتين فى مصر. لماذا؟ لأن درجة أعلى وأنضج من تطوُّر الثورة الديمقراطية، والديمقراطية من أسفل، بكل تأثيرها الكبير على المجتمع وضغطها الهائل على الدولة شرط ضرورى للانطلاق نحو التنمية الاقتصادية الاجتماعية وبناء البلد الصناعى والسَّير الحثيث على طريق التحديث، باعتبار مثل هذا التطور طريقا غير مطروق فى بلادنا ولا جدال فى أن تخلف عقلية نُخَبنا فى هذا المجال يرتبط بشدة بتخلُّفنا الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. على أنه ينبغى التركيز هنا على قضية النضالات المباشرة فى الوقت الحالى والإلمام بفُرصها وآفاقها وكذلك بالعقبات والعراقيل التى تقف فى طريقها. وتتمثل المهام المباشرة لقوى الثورة بطبيعة الحال فى مواصلتها والاستمرار بها بإدراك واضح لحقيقة أن التراجع سوف يمثل كارثة كبرى، ويقتضى إنجاز هذه الثورة السياسية إقامة الجمهورية الديمقراطية الپرلمانية المدنية العلمانية بكل مقتضياتها ومهامها التى سبقت الإشارة إليها. وسوف تمثل الحياة الحرة الكريمة بكل عناصرها واستعادة الأموال التى نهبتها طبقة قامت على ثروات اللصوصية والفساد بتأميمها ومصادرتها، وتوظيفها فى التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة المستقلة، مفتاح السير بثقة على درب الثورة الاجتماعية. وقد حققت الثورة بالفعل نجاحات كبرى أهمها عودة الروح إلى الشعب المصرى واختراق وكسر حاجز الخوف، والإطاحة ب مبارك ووضع حدّ بالتالى للتمديد والتوريث فى مصر والعالم العربى والعالم الثالث والعالم كله، وكذلك تعرية المدى المفزع للفساد والاستبداد فى عهد مبارك أمام الشعب المصرى والشعوب العربية وشعوب العالم كله، كما سبق القول. كما تحققت مطالب للثورة مثل حل الحزب الوطنى ومجلسىْ الشعب والشورى، وبالطبع تحت ضغط هائل من جانب الثورة، غير أنه ليس هناك مغزى حقيقى لحل هذه الأجهزة الملحقة برئاسة الجمهورية والرئيس فى ظل حكم الشخص وأسرته. لماذا؟ لأن حل الحزب الوطنى الذى طالبت به الثورة كان يقتضى أيضا عزل كوادره سياسيًّا وما حدث فى الواقع هو اتجاه كوادر أساسيِّين فى الحزب الوطنى المنحل إلى إنشاء مجموعة من الأحزاب بأسماء متعددة مستفيدين برفض المجلس العسكرى للمطالبة الشعبية بعزلهم بالإضافة إلى انضمام العديد من "فلول" الحزب الوطنى إلى أحزاب أخرى قديمة أو جديدة. وكان حل مجلسىْ الشعب والشورى لصالح إعادة انتخابهما بسرعة على أساس التعديلات الدستورية (غير الدستورية فى الحقيقة) والإعلان الدستورى (30 مارس 2011) وتعديل قانون نظام الأحزاب (28 مارس 2011) وتعديلات قوانين مجلس الشعب ومجلس الشورى ومباشرة الحقوق السياسية (19 يوليو 2011) وكلها صادرة بمراسيم من المجلس الأعلى، كما تجاهل المجلس مطالب بإلغاء مجلس الشورى الذى لا معنًى له والذى اخترعه السادات دون وظيفة أو سلطة تشريعية حقيقية. كما تحققت المحاكمات وبالأخص محاكمة الرئيس المخلوع بفضل ضغوط شعبية هائلة (وكان لموجة 8 يوليو 2011 دور حاسم فى هذا المجال)، غير أن المحاكمات جاءت بعد تباطؤ متواطئ طويل سمح للمتهمين بتهريب الأموال وتأمين أموال مهرَّبة سابقا وبإخفاء الأدلة وفرم الوثائق وكذلك بهروب عدد من كبار المسئولين اللصوص، مما يجعل النتائج النهائية للمحاكمات محاطة بشكوك قوية، بالإضافة إلى بطء عملية التقاضي بصورة تبدو متعمَّدة، كما أن المحاكمات اقتصرت على حلقة ضيقة على حين أن المطلوب هو توسيع دائرة هذه المحاكمات لتشمل كل رؤوس الفساد والاستبداد. وهناك مطالب للثورة رفضها المجلس تماما مثل تشكيل مجلس رئاسى انتقالى يؤلف حكومة تستلم إدارة البلاد (ويكلِّف الجيش بحماية أمن البلاد بعد هزيمة واختفاء الشرطة) كما رفض تشكيل جمعية تأسيسية تكون مهمتها إعداد دستور جديد ديمقراطى، بدلا من إلغاء دستور 1971 مع كل تعديلاته التى أقرها استفتاء 19 مارس 2011، وبدلا من إلغاء كافة القيود القانونية القديمة والجديدة على الحقوق والحريات الحزبية والنقابية وتلك المتعلقة بالتظاهر والاعتصام والإضراب كوسائل نضالية مشروعة. كما رفض المجلس إلغاء قانون الطوارئ الاستبدادي الحالي وحتى رفع حالة الطوارئ ولم يُسَلِّم بوقف المحاكمات العسكرية للمدنيِّين إلا تحت الضغط وإلا بتحويلهم إلى محاكم أمن الدولة،
طريق البلطجية
استمرارا لواقع أن الدولة ظلت تعتمد منذ انقلاب 1952 على المحاكم الاستثنائية، بينما تُركِّز مطالب الثورة على استقلال القضاء وعلى محاكمة المتهم أمام قاضيه الطبيعى. كما رفض حل وإعادة بناء جهازي أمن الدولة والمخابرات العامة وكافة الأجهزة الأمنية الأخرى. وفى كل الأحوال ظل المجلس يطارد كل النضالات الشعبية وكل مظاهر الاحتجاج وظل يقمعها عسكريا بصورة مباشرة وعن طريق البلطجية وإعلاميا لتشويه صورة الثورة كما سبق القول بوسائل منها حملات الشائعات ومنها تصوير أن الثوار يسعون إلى إحداث وقيعة بين الشعب والجيش ومنها قلب حقائق مثل إعلان ممارسات الحقوق الدستورية المشروعة مثل التظاهر والاعتصام والإضراب فى المصانع ومختلف الشركات والمصالح الحكومية "احتجاجات فئوية" كتعبير سلبى بزعم أن المطالب الفئوية تعطل الإنتاج والحياة الطبيعية وأن قطاعات من الثورة المضادة منها "فلول" الحزب الوطنى هى التى تحرِّض عليها لضرب الإنتاج والثورة ومصر. كما استخدم المجلس سياسة "فرِّق تسد" بتقريب قوى سياسية بعينها وإشراكها فى الحكومة وعقد صفقات معها، بحيث صارت هذه القوى عدوًّا لدودا لكل موجات الثورة ومبادراتها وأنشطتها وصارت تقوم بدور أكثر فاعلية من دور المجلس فى مجال تشويه صورة القوى الأكثر إخلاصا للثورة وينطبق هذا فى المحل الأول على قوى الإسلام السياسى والليبرالية اليمينية التى تقوم بهذا الدور الخبيث لأنها ترى أن القوى المدنية واليسارية والعلمانية خطر عليها أكثر من المجلس والنظام وكذلك لأنها ترغب فى تأمين ضمانات لفاعلية صفقاتها معهما. والحقيقة التى لا جدال فيها هى أن النظام بقيادة المجلس هو السبب المباشر وراء تعطيل الإنتاج وشلّ الحياة الطبيعية بعناده المباركىّ (الدكتوراة فى العناد) فى رفض مطالب الثورة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى انفجرت الثورة وتتواصل الآن من أجلها غير أن هذا هو السلوك "الطبيعى" المتوقع من النظام الذى يعمل على خنق الثورة تمهيدا لسحقها لاستعادة نفس النظام بدون رأسه ورقبته. وبالطبع فإن كل وسائل النضال التى تتفق مع الشرعية الثورية مشروعة وينبغى استخدامها على أوسع نطاق كما أن من حق كل الفئات والطبقات والقطاعات أن تناضل بكل وسائل نضال الشرعية الثورية هنا والآن من أجل حقوقها غير القابلة للانتظار كما يريد المجلس وحلفاؤه الجدد من الإسلاميِّين والليبراليِّين اليمينيِّين الذين يخونون الثورة جهارا نهارا فى سبيل الفتات الذى قد يفوزون به بدلا من الجوائز الكبرى التى يتصوَّرون أن مواقفهم ضد كل مبادرة ثورية سوف تجلبها عليهم. وينبغى إدراك أن التظاهر بالتعقل من جانب بعض قوى الثورة ورفض هذا الشكل النضالى أو ذاك ورفض هذا الهدف المشروع أو ذاك إنما يصبّ فى مصلحة الثورة المضادة أىْ المجلس والنظام وحلفائهما المذكورين أعلاه. وينبغى أيضا إدراك أن مسألة على أىّ شيء ينبغى التركيز أبسط من الصورة التى تبدو عليها. إننا هنا إزاء شعب ثائر، إزاء طبقات شعبية مستغَلَّة ومقهورة منذ عقود طويلة، ومن حق هذه الطبقات وفى مقدمتها الطبقة العاملة أن تنتزع حقوقها هنا والآن، غير أن فئات أخرى وقطاعات أخرى ومجموعات أخرى تناضل أيضا فى سبيل انتزاع حقوقها وحرياتها فى مختلف المجالات ولهذا فإننا إزاء ملايين من أبناء الشعب الذين يمكن أن يقوموا بالتغطية الاجتماعية والسياسة لهذه النضالات كافة ولا يمكن تحديد شكل نضالى واحد، ولا وسيلة نضالية واحدة، ولا هدف نضالى واحد، لكل الشعب الآن بل إن هذه النضالات الواسعة تتكامل وتتداخل وتتفاعل لتحقيق الأهدلف الكبرى للثورة. غير أننا نتجه بسرعة إلى الانتخابات الپرلمانية والرئاسية القادمة. وقد أصابت حُمَّى السرعة كثيرا من الأطراف سبق ذكرها وذكر أسباب تعجُّلها. فما العمل؟ ومن ناحية لا ينبغى العمل على تأجيل الانتخابات لحساب استمرار الحكم العسكرى المباشر الحالى، ومن الناحية الأخرى لا ينبغى تسهيل التسريع الذى تريده قوى الثورة المضادة لقطع الطريق على القوى المدنية واليسارية والعلمانية، ولا مخرج من هذه المعضلة إلا بتأجيل يقوده مجلس انتقالى مدنى. غير أن هذا بدوره يُدخلنا فى سراديب معضلات جديدة. أولا لأن القوى الأكثر إخلاصا للثورة تعانى من آثار ستين عاما من الملاحقات الپوليسية ضدها فى سياق تصفية وتجريف الحياة السياسية وهى تواجه قوى أكبر عدديا وأكثر تنظيما مع أنها قوى متباينة تعانى بدورها من تناقضات وانقسامات. غير أن القوى المدنية الأكثر إخلاصا للثورة هى التى أشعلت الثورة جاذبة كل الشعب إليها وهى التى تستمر بالثورة الآن وتواجه كل مقاومة من أركان الثورة المضادة، وهذه ميزة لا يمكن التقليل منها خاصة عندما تواصل الثورة قوى مدنية صلبة لا يمكن تهدئتها إلا بتحقيق مطالبها على حين أن محاولة إخضاعها بمجازر كبرى أمام العالم كله قد لا تكون مجدية كما تُثبت ثورات ليبيا وسوريا واليمن، وهما خياران أحلاهما مر بالنسبة لقوى الثورة المضادة بوجه عام خاصة على خلفية تنوُّعها وتناقضاتها. وتجد القوى الثورية المخلصة نفسها إزاء إستراتيچية تتمثل فى قدرة قوة أضعف نسبيا على استغلال تناقضات قوى أكبر منها عدديًّا فى الانتخابات والاستفتاءات والميادين بما لا يقاس عندما توحِّد صفوفها على حين أن تناقضاتها تحرمها فى كثير من الأحيان من توحيد صفوفها. ولا شك فى أن وجود قوى متعددة متضاربة سياسيا يمكن أن تؤدى إلى عجز قوة بمفردها عن السيطرة على الپرلمان بأغلبية تمكِّنها من تشكيل الحكومة. وهناك بالطبع شكوك تحيط بنزاهة العملية الانتخابية، ذلك أن سلوك المجلس الأعلى منذ بداية سلطته ذات النزعة العسكرية الشمولية إلى يومنا هذا لا يوحى بأىّ ثقة بأنه سيقوم بإجراء انتخابات نزيهة أو حتى خالية من التزوير المباشر. وعلى هذه الخلفية تدور أسئلة ملحّة حول احتمال وجود صفقة بين المجلس والإخوان المسلمين بمباركة أمريكية وسعودية بالسماح للإخوان المسلمين بأغلبية پرلمانية وبالتالى بتشكيل حكومة وربما بالفوز برئيس للجمهورية. ويعتقد كاتب هذه السطور أن الصفقة التى لا شك فى وجودها بين المجلس والإخوان وكذلك بينه وبين الليبرالية اليمينية وربما بينه وبين قوى أخرى، مثل الأحزاب التى يشكلها كوادر الحزب الوطنى المنحلّ وأحزاب أخرى، يلجأ إليها المجلس ل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.