صناديق «الشيوخ» تعيد ترتيب الكراسى    إصلاح الإعلام    صوم العذراء.. موسم روحي مميز    زيارة رعوية مباركة من الأنبا أغاثون إلى قرية بلهاسة بالمنيا    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الأحد 17 أغسطس 2025    أسعار الدواجن اليوم الأحد 17 أغسطس 2025    وزير الزراعة: تمويلات مشروع «البتلو» تجاوزت 10 مليارات جنيه    بوتين وترامب على طاولة إعادة رسم العالم    «التهجير الصامت» للفلسطينيين من غزة    استئناف إدخال شاحنات المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة    احتجاجات واسعة وإضراب في إسرائيل للمطالبة بوقف الحرب    الزمالك يعود للتدريبات الاثنين استعدادًا لمواجهة مودرن سبورت    ترتيب الدوري الاسباني الممتاز قبل مباريات اليوم    طقس اليوم.. الأرصاد: أجواء صيفية معتادة.. ونشاط رياح يساعد على تلطيف الأجواء مساء    مصرع شخصين وإصابة 28 في انقلاب أتوبيس بطريق أسيوط الصحراوي الغربي    طلاب الدور الثاني بالثانوية العامة يؤدون اليوم امتحاني اللغة الأجنبية الثانية والتربية الوطنية    المصيف فى زمن الفلتر    الرئيس السيسي يوجه بوضع خارطة طريق شاملة لتطوير الإعلام المصرى    قرن من الخيانة    جمعية الكاريكاتير تُكرّم الفنان سامى أمين    "بشكركم إنكم كنتم سبب في النجاح".. حمزة نمرة يوجه رسالة لجمهوره    وفاة شاب صعقا بالكهرباء داخل منزله بالأقصر    حظك اليوم وتوقعات الأبراج    قوات الاحتلال تُضرم النار في منزل غربي جنين    السيسي يوجه بزيادة الإنفاق على الحماية الاجتماعية والصحة والتعليم    موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 بحسب أجندة رئاسة الجمهورية    عيار 21 الآن.. أسعار الذهب اليوم في مصر الأحد 17 أغسطس 2025 بعد خسارة 1.7% عالميًا    حياة كريمة.. 4 آبار مياه شرب تقضى على ضعفها بقرية الغريزات ونجوعها بسوهاج    خالد الغندور يكشف ردًا مفاجئًا من ناصر ماهر بشأن مركزه في الزمالك    مشيرة إسماعيل تكشف كواليس تعاونها مع عادل إمام: «فنان ملتزم جدًا في عمله»    للتخلص من الملوثات التي لا تستطيع رؤيتها.. استشاري يوضح الطريق الصحيحة لتنظيف الأطعمة    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الأحد 17 أغسطس 2025    10 صور لتصرف غريب من حسام عبد المجيد في مباراة الزمالك والمقاولون العرب    خروج يانيك فيريرا من مستشفى الدفاع الجوى بعد إجرائه بعض الفحوصات الطبية    وكيل صحة سوهاج يصرف مكافأة تميز لطبيب وممرضة بوحدة طب الأسرة بروافع القصير    رويترز: المقترح الروسي يمنع أوكرانيا من الانضمام للناتو ويشترط اعتراف أمريكا بالسيادة على القرم    تدق ناقوس الخطر، دراسة تكشف تأثير تناول الباراسيتامول أثناء الحمل على الخلايا العصبية للأطفال    8 ورش فنية في مهرجان القاهرة التجريبي بينها فعاليات بالمحافظات    في تبادل إطلاق النيران.. مصرع تاجر مخدرات بقنا    مصرع شخصين وإصابة ثالث في انقلاب دراجة نارية بأسوان    «مش عايز حب جمهور الزمالك».. تعليق مثير من مدرب الأهلي السابق بشأن سب الجماهير ل زيزو    رابط نتيجة تقليل الاغتراب.. موعد بدء تنسيق المرحلة الثالثة 2025 والكليات والمعاهد المتاحة فور اعتمادها    رئيس جامعة المنيا يبحث التعاون الأكاديمي مع المستشار الثقافي لسفارة البحرين    الداخلية تكشف حقيقة مشاجرة أمام قرية سياحية بمطروح    لأول مرة بجامعة المنيا.. إصدار 20 شهادة معايرة للأجهزة الطبية بمستشفى الكبد والجهاز الهضمي    كيف تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع تعادل الزمالك والمقاولون العرب؟ (كوميك)    المصرية للاتصالات تنجح في إنزال الكابل البحري "كورال بريدج" بطابا لأول مرة لربط مصر والأردن.. صور    تعليق مثير فليك بعد فوز برشلونة على مايوركا    وزيرا خارجية روسيا وتركيا يبحثان هاتفيًا نتائج القمة الروسية الأمريكية في ألاسكا    الأردن يدين بشدة اعتداءات الاحتلال على المسيحيين في القدس    كيف تتعاملين مع الصحة النفسية للطفل ومواجهة مشكلاتها ؟    «زي النهارده».. وفاة البابا كيرلس الخامس 17 أغسطس 1927    "عربي مكسر".. بودكاست على تليفزيون اليوم السابع مع باسم فؤاد.. فيديو    يسري جبر يوضح ضوابط أكل الصيد في ضوء حديث النبي صلى الله عليه وسلم    عاوزه ألبس الحجاب ولكني مترددة؟.. أمين الفتوى يجيب    هل يجوز إخراج الزكاة في بناء المساجد؟.. أمين الفتوى يجيب    وزير الأوقاف: مسابقة "دولة التلاوة" لاكتشاف أصوات ذهبية تبهر العالم بتلاوة القرآن الكريم    الشيخ خالد الجندي: الإسلام دين شامل ينظم شؤون الدنيا والآخرة ولا يترك الإنسان للفوضى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خليل كلفت يكتب: مذبحة ماسپيرو تضع الثورة أمام التحديات والأخطار الكئيبة
نشر في الدستور الأصلي يوم 14 - 10 - 2011

وضعت مذبحة ماسپيرو فى 9 أكتوبر الشعب المصرى والثورة المصرية بصورة مفاجئة ومفزعة ووجها لوجه أمام أحد الأخطار والتحديات والسيناريوهات الكئيبة التى تدَّخرها الثورة المضادة التى لم تتورع ولن تتورع عن اللجوء إليها عند الضرورة. إنه سيناريو إحراق الثورة فى أتون الفتنة الطائفية. ومع هذا التطور الكئيب صار المسيحيون فى مصر أمام احتمال مصير مأساوى وصار الشعب المصرى كله مسيحيِّين ومسلمين أمام احتمال أن تقذف بهم الثورة المضادة إلى حريق هائل يأتى على ثورتهم المجيدة وعلى وجودهم ذاته لإنقاذ النظام فوق جماجم الشعب مسلمين ومسيحيِّين.
لقد صار المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية يملك من الحزم والعزم ما يجعله يقوم أمام العالم كله بتنظيم مذبحة للمسيحيين على الهوية بدم بارد ثم يسبقهم فلا يتبرأ منها فحسب بل يتهم الضحايا بأنهم هم الذين اعتدوا على الجيش والشرطة العسكرية والأمن المركزى وفتكوا بأفراد كل هذه القوات التى كانت مجردة من السلاح، إلخ.، الأكاذيب التى لا تستحق إضاعة الوقت لسردها أو تفنيدها.
وخرجت أشرس القوى السياسية الدينية تروِّج نفس الأكاذيب، وتحرِّض ضد المسيحيِّين الذين اعتدوا على الجيش وفقا لمزاعمها، وتقوم بصورة مباشرة بتوسيع نطاق مواجهات الفتنة الطائفية التى كانت مجموعات من هذه القوى بالذات هى التى أشعلت شرارتها هذه المرة من أسوان كما فعلت دائما منذ الثورة وعلى مدى عقود قبل الثورة.
وهكذا صارت كل قوى الثورة المضادة: القيادة العليا للجيش وقيادات الإسلام السياسى ورجال مبارك والحزب الوطنى الذين يسيطرون على الإعلام بكل وسائله الصحفية والتليڤزيونية والإذاعية وغيرها وعلى كل شيء آخر فى إدارة البلاد تمتشق السلاح ضد المسيحية فى مصر لتقتل وتذبح وتغطِّى إعلاميا. ولماذا؟ لأن حكامنا الحاليِّين والطامحين إلى حكمنا فى أقرب وقت يجدون أن الفتنة الطائفية ليست خطا أحمر بل هى وسيلة ممتازة من وسائل إجهاض الثورة وتصفيتها لااستعادة نفس النظام السابق بدون أسرة مبارك.
وهكذا حكموا على المسيحيِّين فى مصر بأن يكونوا غرباء فى وطنهم كحدٍّ أدنى أو أن يكونوا وقودًا فى حرب الثورة المضادة ضد الشعب المصرىّ كله إذا دعت ضرورات القضاء على الثورة.
ولا شك بطبيعة الحال فى أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية بالذات من مصلحته أن يفضِّل خيار تصفية الثورة من خلال عملية تدريجية طويلة دون اللجوء إلى صراع طائفى أو حرب أهلية أو مواجهات واشتباكات واسعة النطاق بين الجيش والشعب لأن مثل هذه التطورات يمكن أن تخرج فى مرحلة ما عن سيطرته ومخططاته بل يمكن أن تنقلب عليه. غير أنه ينظر إلى هذه الأشياء على أنها وسائل تبررها الغاية المتمثلة فى الحيلولة دون أن تتواصل الثورة لتحقيق أهدافها الحقيقية التى لن تقف عند حد بحكم طبيعة كونها ثورة.
ولكنْ هل استنفد المجلس الأعلى كل الوسائل السلمية ليلجأ إلى الحرب أو إلى أشكال حربية رغم خطورة هذا عليه أيضا؟ والحقيقة أننا لو نظرنا إلى سلوك المجلس الأعلى من زاوية الحكمة التى تقتضيها مصالح الطبقة المالكة العليا فى البلاد، وهو جزء منها، سنجد أن هذا السلوك يُجافى كل حكمة، غير أن السلوك السياسى للمجلس لا يتحدد من جانب واحد بكونه الممثل السياسى للطبقة المالكة العليا فى مصر بما يُفترض فيه من حكمة، فالحقيقة أن سلوكه يتوافق أيضا مع عقليته العسكرية، وقلة تجربته السياسية والإدارية، والجمع بين القوة المطلقة والجهل المطبق بحكم طبيعة النظام البائد وحكم الشخص والأسرة وتأثير كل ذلك على كل مؤسسات الدولة بلا استثناء، وتشبُّعه بالتالى بأساليب وقِيَم وعقلية نظام مبارك والنظام العسكرى القائم فى البلاد منذ قرابة ستين عاما.
وتستحوذ على عقلية المجلس مكوِّنات الأسطورة التى حاول ويحاول أن يخلقها لنفسه والهالة التى يريد أن يحيط بها نفسه. فهو يحاول خلط الأوراق مصوِّرًا انقلابه على مبارك تحت ضغط الثورة لإنقاذ النظام وتصفية الثورة على أنه كان تدخُّلًا لحماية الثورة وإنجاحها، ومصوِّرًا أن المجلس هو الجيش والجيش هو المجلس متَّهما كل مَنْ ينتقد سياساته بأنه يحاول إحداث وقيعة بين الجيش والشعب، زاعما أن الجيش خط أحمر دون أىّ مؤسسة أخرى ودون الشعب ذاته. وانطلاقا من كونه المؤسسة الأمنية الوحيدة التى ظلت متماسكة بعد هزيمة الشرطة أمام الشعب فى بداية الثورة، وانطلاقا من واقع الحالة المتشرذمة وحتى المتعادية بين قوى الثورة بما أدى إلى عجزها عن تكوين مجلس انتقالى وناهيك بجمعية تأسيسية مما يجعله حاكم الأمر الواقع الوحيد الذى لا بديل له، ولأن تسييس الشعب لم ينضج تماما بعد، يتصور المجلس أن محافظته على هيبته تقتضى أن "يقود" الشعب كله كما يقود القوات المسلحة بالأوامر والضبط والربط وإصدار الفرمانات والمراسيم العلوية دون مناقشة، وأن محافظته على هيبته تقتضى أن يمارس السياسة بالمنطق العسكرى الذى ينطوى على مستويات من الخشونة والعنف فى كل الأحوال وفى كل الأوقات.
ولكل هذا يجد المجلس نفسه أمام ضرورتيْن متناقضتيْن ضاغطتيْن: ضرورة مستوى عالٍ من المرونة لجعل عملية تصفية الثورة تدريجية وطويلة وخالية من مخاطر انهيار النظام، باستخدام التباطؤ بذكاء مع تحقيق جدى لمطالب الثورة، وباستخدام سياسة "فَرِّقْ تَسُدْ" مع القوى والأحزاب السياسية بطريقة خفية بعيدا عن الطرق الصارخة المتبعة الآن، مع الابتعاد عن العناد المفرط واستفزاز قوى الثورة، من ناحية، ومن ناحية أخرى، ضرورة الوصول بالنظام إلى بر الأمان بأقصى سرعة ممكنة وبكل وسيلة ممكنة خشية المخاطر التى ينطوى عليها استمرار الأشكال المتنوعة التى تتخذها الثورة حيث تنفجر فى وجه النظام كل مطالب ونضالات رفع كل المظالم وإحقاق كل الحقوق وكسر كل القيود وإطلاق كل الحريات.
ولهذا يعمد المجلس الأعلى إلى سياسات وإستراتيچيات ووسائل رغم المخاطر التى تنطوى عليها هذه الأشياء حتى عليه. فلا شك فى أن ترك الحبل على الغارب للإسلام السياسى لدفعه إلى الصدام مع قوى الثورة والتغاضى عن إثارته للفتنة الطائفية ضد المسيحيِّين ينطوى على خطر خروج هذه القوى عن سيطرته الحالية (فى إطار الخديعة السياسية المتبادلة بين المجلس والقوى السياسية وفيما بين هذه القوى ذاتها)، وهو هنا يستفيد بالدور الهائل الذى تلعبه قوى الإسلام السياسى بالتعاون معه ضد الثورة وضد أنشطتها ونضالاتها ومبادراتها إلى حد كسر إضراباتها. كما يستفيد المجلس بالترويع الذى تمارسه هذه القوى، جنبا إلى جنب مع المجلس والحكومة والإعلام و"فلول" الحزب الوطنى التى تسيطر إداريا على جهاز الدولة بأكمله، ضد القوى الحية المخلصة للثورة.
على أن تورُّط المجلس فى تنظيم مذبحة ماسپيرو للمسيحيِّين، بالاستخدام المباشر للجيش والشرطة العسكرية والأمن المركزى والبلطجة وبالتواطؤ مع قوى الإسلام السياسى ومع كوادر الحزب الوطنى، يدلّ على أنه لا يتورع عن جرّ البلاد إلى شفا الحرب الأهلية وإلى أتونها، حيث تُعْمِيه طريقته فى فهم مصالحه ومصالح النظام والطبقة الرأسمالية التابعة عن حقيقة أن هذا المسار لن يدمر الشعب فقط ولا المسيحيِّين فقط ولا الثورة فقط بل يمكن أن يدمر المجلس والنظام والطبقة جميعا كذلك.
ولكنْ لماذا هذا الجنون من مجلس كان ذكيا وعاقلا عندما قام بانقلابه ضد مبارك لحماية النظام والطبقة المالكة بنزع فتيل الثورة حتى بعد انفجارها عن طريق إزالة الهدف الذى أجمعت عليه كل القوى المشاركة فى الثورة أىْ إزاحة شخص مبارك وأسرته وعدد من الحلقة الضيقة جدا من رجاله؟ وكيف تصوَّر المجلس أنه سيبقى وأن النظام سيبقى بعد أن يصل بنا هذا المسار بقيادته الطائشة إلى الحرب الأهلية التى لن تقف عند الفتنة الطائفية ضد المسيحيِّين بل ستتطاحن فيه الثورة والثورة المضادة بكل قطاعاتهما بما فى ذلك الحرب الداخلية فى صفوف الثورة المضادة نفسها؟ غير أن هذا الجنون هو الذى يسود العالم العربى كله الآن حيث تتصور الدول والجيوش والأنظمة والطبقات الحاكمة أن الثورة ستدمرها فى كل الأحوال فلا تجد مناصا من تدمير كل شيء على أمل احتمال ضئيل فى الانتصار بالقضاء على الثورة مع أنه سيكون مستحيلا عليها أن تملك وتحكم حتى إذا حققت هذه المهمة المستحيلة. فكيف تصور القذافى أنه سيحكم بعد أن يدمر الشعب والوطن، وكيف يتصور الرئيسان السورى واليمنى أنهما سينجوان بنظاميْهما بعد تدمير كلٍّ منهما لشعبه ووطنه؟!
إنه الجنون؛ جنون الثروة والسلطة، جنون السياسات التى جرى انتهاجها قبل الثورة بما جعل الثورة أمرا لا مناص منه ولا سبيل إلى تفاديه، جنون أن يجد هؤلاء الزعماء المجانين أنه لا مفر أمامهم سوى المزيد من الجنون تفاديا للمحاكمة المحلية أو الدولية وتفاديا للإعدام أو السجن مدى الحياة. فهؤلاء الزعماء المجانين يحاربون إذن وظهرهم إلى الحائط ولسان حالهم يقول "أنا ومن بعدى الطوفان"، فيتبعون سياسة الأرض المحروقة التى ستحرق الجميع رغم الوضوح الصارخ لهذا المصير.
فما الذى يمكن أن ينقذ مصر من الجنون الذى يسيطر على ليبيا وسوريا واليمن بعد أن بدا أنه استثنى تونس ومصر؟! وهنا تظهر المفارقة الصارخة التى تتمثل فى أن المجلس العسكرى للقوات المسلحة المصرية بدأ بخطة ذكية لإنقاذ النظام عن طريق إجهاض الثورة وتفادى صراع يمكن أن ينتهى إلى الحرب الأهلية عن طريق التخلص من مبارك الذى اعتبره أكبر أسباب الثورة ولكنه ينتهى الآن إلى أن يقوم بنفسه بجرّ البلاد إلى المصير الذى عمل فى البداية على تفاديه، من خلال سياساته المتواصلة بعناد ضد مطالب الثورة ونضالاتها، ومن خلال الإصرار العنيد على تنفيذ برنامجه بالكامل فى مجال التعديلات والإعلانات الدستورية والانتخابات الپرلمانية والرئاسية، والإصرار على أن تكون له اليد العليا فى المرحلة "الانتقالية" وما بعدها، ومن خلال سياسة "فَرِّقْ تَسُدْ" التى يُذْكى بها نار الصراع بين مختلف القوى السياسية، وأخيرا وليس آخرا اللجوء إلى تشجيع الفتنة الطائفية من خلال طريقة التعامل مع أحداثها وجرائمها وصولا إلى التنظيم المباشر لمذبحة ماسپبيرو التى ستظل جرحا مفتوحا يمزق الضمير المصرى كما يمكن أن يكون مجرد "پروڤة" لطوفان الفتنة الطائفية والحرب الطائفية والحرب الأهلية.
وكان من السهل تماما وضع حدّ للتطورات التى انتهت إلى المذبحة البشعة التى ستقض مضاجعنا من الآن فصاعدا. كان من السهل إقالة محافظ أسوان الذى طالب بإقالته النوبيون لما ارتكبه فى حقهم والأقباط لما ارتكبه فى حقهم غير أن المجلس الذى جدد له كمحافظ لأسوان رغم تغيير معظم أو كل المحافظين تقريبا يصرّ بدكتوراة فى العناد على بقائه، واستهتر المجلس بكل الاحتجاجات ضد بقاء ذلك الشخص محافظا لأسوان. وكان ينبغى اعتقال ومحاكمة ومعاقبة الأهالى الذين أشعلوا الفتنة من قرية مريناب ومحاكمة ذلك المحافظ لأنه ترك آحاد الناس يتدخلون فى قضية حساسة مثل بناء الكنائس إلى حد تدمير كنيسة بالنيابة عن الدولة الغائبة. وكان على الدولة أيضا إصدار القانون الموحَّد لدور العبادة. وكان على الدولة مواجهة كل القوى التى ساهمت بالتحريض والعمل المباشر فى أعمال طائفية ضد المسيحيِّين منذ بداية الثورة الراهنة. وكان توجُّه المسيرة الاحتجاجية إلى ماسپيرو معروفًا سلفا وبالتالى كان على الدولة حراستها وحمايتها ضد قوى الحزب الوطنى والإسلام السياسى والبلطجية. وكان على المجلس الأعلى، حاكم الأمر الواقع، أن يباشر كل الإجراءات الكفيلة ليس فقط بحماية الاحتجاجات بل كذلك بتحقيق مطالبها على الفور. ولا مجال للتنصل من المسئولية ولا مصداقية للتفسيرات التى قدَّمها المجلس مثل دعاوى أن قتل المسيحيِّين لم يكن من عمل الجيش رغم شهادات العيان الوفيرة ورغم المدرعة المندفعة بجنون ليدهس ويُسوِّى خلق الله بالأرض. ثم لماذا يتدخل الجيس أو الأمن لفض تظاهرات أو اعتصامات أو إضرابات بالقوة رغم أن هذه الحقوق مكفولة فى الدستور.
وقد شهدت ميادين مصر قتل المئات وجرح الآلاف أثناء الثورة على يد مؤسسة من مؤسسات الدولة وكان هذا هو المنطق الطبيعى فى صدام الثورات والثورات المضادة بين الجماهير وقوى الأمن، أما قيام الجيش ذاته، مدعوما بالإعلام وبدعاية وتدخلات قوى الإسلام السياسى و"فلول" الحزب الوطنى والبلطجية؛ هؤلاء القتلة بأجر لحساب مَنْ يدفع، بالاشتباك مع جماهير كان أغلبها من المسيحيِّين وارتكاب تلك المذبحة الطائفية الدينية البشعة فهو شيء آخر. إنه القتل المنظم الرسمى الذى تمارسه الدولة المصرية "على الهوية"!
وهكذا يُطْلق أولئك الذين قاموا بإسكات أجراس الكنائس أجراس الإنذار ونواقيس الخطر. والفتنة الطائفية التى يراد إشعالها وسيلة معروفة ومدروسة لتوجيه الثورة أىْ الصراع الطبقى الثورىّ ضد الطبقة الاستغلالية الاستبدادية الحاكمة فى قنوات البؤس والتخلف والتعصب والجهل بعيدا عن المساس بالطبقة والنظام والمجلس، مع أن نيران الفتنة ستحرق الجميع. وهكذا يحاول المجلس أن يجرّ بلادنا وشعبنا الآن إلى المصير الكارثى المهلك الذى حاول من قبل أن يتفاداه عن طريق تنحية مبارك!
فما العمل مع هذا المجلس الذى يحكم (فى غياب بديل حقيقى ساهم هو نفسه بسياساته على تغييبه) منفذا بصورة ممنهجة مخططا جهنميا من الانتخابات الپرلمانية والرئاسية بطريقة تضمن له الحكم العسكرى المموَّه بواجهة مدنية زائفة؟
والحقيقة أن القوى المخلصة للثورة حتى النهاية تستطيع رغم قوتها العددية الأقلّ أن ترجِّح كفة تفادى الحرب الطائفية والحرب الأهلية بفضل ميزتها على قوى الثورة المضادة التى شاركت فى الثورة ضد مبارك وعلى المجلس والنظام والطبقة جميعا. فبصورة متواصلة وفى كل يوم يخسر المجلس والإخوان والسلفيون والقوى الحزبية القديمة والجديدة المتواطئة قلب الشعب لأنهم جميعا يقفون ضد مطالبه ونضالاته ويشتركون فى قمعه وكسر إضراباته، على حين أن قوى اليسار والديمقراطية والليبرالية اليسارية والقوى الشبابية المؤمنة بالحرية والكرامة الإنسانية والعدالة والمعادية حتى النهاية للفساد والاستبداد هى التى أشعلت شرارة الثورة واستمرت بالثورة إلى الآن ضد مؤامرات القوى الأخرى وهى التى تقف بحزم مع حقوق الشعب وحرياته ومطالبه، وهذا ما يجعلها قادرة على مواجهة ممتدة كسب فيها قلب الشعب وما يزال من الممكن أن يكسب من خلال تطور الثورة قلب قطاعات الشعب التى ما تزال غير مسيَّسة والتى يجعلها عدم تسييسها رصيدا لقوى الثورة المضادة فى الانتخابات كما فى مواجهات الفتنة الطائفية وغيرها.
والآن بعد أن قمنا بدفن شهداء ماسپيرو علينا ألا ننسى دماءهم الزكية وأن نحاكم ونعاقب كل من تسبب بصورة مباشرة أو غير مباشرة فى هذه المذبحة المشينة البشعة وعلينا أن ننظر إلى الأمام، إلى النضال الثورى السلمى العنيد من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، من أجل تحويل مصر إلى بلد صناعى، ومن أجل تحقيق الاستقلال الحقيقى لمصر بدلا من التبعية الاستعمارية القائمة، وعلينا وضع حد لتكرار المذابح الطائفية بدستور يطهر نفسه من المواد الدستورية التى تشكل معا الأساس الدستورى للطائفية وتقسيم الشعب حسب الديانة بعيدا عن المواطنة والوحدة الوطنية وبقية الشعارات التى نتغنى بها ليل نهار بنفاق لا جدال فيه رافضين بكل السبل وضعها موضع التنفيذ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.