«فريسكا.. يا فريسكا!»، «ذرة سخنة.. الجندوفلى!»، أصوات كانت جزءًا من ذاكرة الصيف فى مصر، تحفظها الأذن قبل القلب.كانت هذه الأصوات هى موسيقى المصيف عندئذ، حيث البحر يحتضن الجميع فى بساطة ودفء، لا كاميرات توثّق اللحظة ولا «لايف» يعرضها للعالم، بل ذكريات تحفظها القلوب وكاميرا تلتقط صورة عائلية تحتفظ فقط باللحظة. ومع مرور الزمن، تغيّرت هذه الملامح.. اختفت بعض الأصوات، وظهرت بدائلها العصرية، وتبدّلت طقوس الاستمتاع. هكذا تحوّل المصيف من حكاية هادئة تُروى على وقع الأمواج، إلى عرض مباشر على وسائل التواصل، يحمل ملامح جيل جديد وأسلوب حياة مختلف تمامًا عن الأمس. وفى السطور القليلة القادمة نحاول رصد الاختلافات بين مصيف زمان ومصيف اليوم. مصايف النجوم.. الخصوصية اختفت فى خمسينيات وستينيات وصولا لثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى، كان للمصيف طابع خاص بالنسبة للنجوم. إذ كان ملاذًا حقيقيًا للراحة، بعيدًا عن عدسات المصورين وضغط العمل. «رأس البر»، بشواطئها الرملية الهادئة، كانت نقطة اللقاء بين كبار الممثلين والمطربين، لكن هذه اللقاءات كانت عفوية وبعيدة عن الإعلام. لا حفلات صاخبة ولا بث مباشر، بل جلسات ودودة على الرمال، وضحكات هادئة عند الغروب مع فنجان شاى أو قهوة. فقد رأينا صور نجوم زمن الفن الجميل على شواطئ مصر بدون ماكياج ولا مبالغات كأنهم تركوا نجوميتهم فى القاهرة وذهبوا للمصيف يستمتعون بحياة المواطن العادى.فصور أم كلثوم وشادية وسعاد حسنى ولبلبة ورشدى أباظة وغيرهم الكثير تبدو جميعها عفوية وليست فنية بل صور كتلك التى تحتفظ بها معظم الأسر المصرية من ذكريات المصيف فى ذلك الوقت. اليوم، تغيّرت الصورة تمامًا. أصبح المصيف جزءًا من «المحتوى» الذى يقدمه النجوم لجمهورهم على منصات التواصل الاجتماعى بكل أنواعها «إنستجرام» و «تيك توك». فنرى كبار النجوم والفنانين يشاركون المتابعين التمارين الرياضية من داخل الجيم حتى فى أيام الإجازة،بل إن النجوم ينشرون استعدادهم للصيف بالانتظام فى الجيم للحصول على ما يسمى ب «فورمة الساحل». فى حين يوثق الآخرون كل اللحظات الخاصة على الشاطئ، لتختفى الخصوصية التى كانت من أهم ملامح مصايف الماضى. من النوم المبكر إلى السهر حتى الصباح من الاختلافات الجوهرية التى حدثت بين المصايف زمان والمصايف فى الوقت الحالى هو إيقاع الحياة. ففى الماضى، كانت الحياة تبدأ مبكرًا وتنتهى مبكرًا. إذ كان السهر يمتد حتى منتصف الليل، وعندئذ تخفت الأضواء ويعم الهدوء. وكان البحر فى الصباح الباكر أنقى، وصوت تلاطم الأمواج هو الصوت الوحيد الذى يملأ المكان. أما اليوم، فقد انقلب الإيقاع رأسًا على عقب. فالمصايف فى الساحل الشمالى أصبحت الحياة الفعلية فيها تبدأ بعد منتصف الليل، حيث تتحول الشواطئ إلى مسارح للحفلات، وتفتح المطاعم حتى الساعات الأولى من الصباح. وأصبحت الحفلات الليلية والمناسبات الموسيقية جزءًا لا يتجزأ من جدول أى مصيف. من ترمس الشاى إلى الفرابيه لم يقتصر التغيير على اختلاف إيقاع الحياة فى المصايف بل تسرب أيضًا إلى المشروبات المتداولة. حيث كان جزءا من متعة المصيف قديمًا فى بساطة الطعام. إذ تبدأ الرحلة بفنجان قهوة أو ترمس شاى، مع سندويتشات محضّرة فى المنزل، غالبًا من الجبن أو البيض أو المربى. فيما كانت مطاعم السمك الشعبية على الشاطئ هى الوجهة الوحيدة للغداء خارج المنزل، وكان طعم السمك الطازج كافيًا لاستكمال متعة اليوم. فيما أصبحت قوائم الطعام الفاخرة، من البيتزا، واللاتيه، والبوبا وغيرها من المأكولات والمشروبات المتنوعة رموزًا للمصيف العصرى. وانتشرت المطاعم العالمية والمقاهى الراقية على الشاطئ، بأسعار مرتفعة وديكورات فخمة، وتغيّر مشهد الطعام ليصبح تجربة بصرية وصورة «إنستجرامية» قبل أن يكون وجبة لإشباع الجوع. حتى مطاعم السمك تطوّرت لتنافس على تقديم خدمة خمس نجوم لأنواع جديدة وغير تقليدية من الأسماك. فريسكا بطعم اللايف كان الباعة الجائلون جزءًا أصيلًا من صورة المصيف القديم. يبيعون الفريسكا، والذرة المشوية، ومستلزمات البحر للأطفال. فيما يتجولون على الشاطئ بأصواتهم المميزة، بل فى بعض الأحيان يعرفهم المصطافون بالاسم. أما اليوم، فاختفى معظم هؤلاء الباعة، وبقى بائع الفريسكا وحده، رمزًا صامدًا من الماضى. بخلاف أن الاستمتاع بالفريسكا فى الماضى كان لحظيًا وبسيطًا فى جو عائلى، فيما أصبح الآن مشهدًا يتم توثيقه بالهاتف قبل تناوله، لمشاركته على وسائل التواصل الاجتماعى. رفاق الشط.. من الراديو إلى البلوتوث وبالحديث عن رفقة الشاطئ تجدر الإشارة إلى أنه كان للراديو مكانة خاصة فى الماضى، بصحبة الصحف والمجلات، أو كتاب صغير للقراءة. إذ كان هذا الرفيق البسيط يمنحك عزلة ممتعة وسط صوت الأمواج. الأغانى الكلاسيكية كانت تصدح من جهاز الراديو، فيما كانت الكتب تفتح بابًا لعوالم أخرى بينما تمتد الرمال تحت أقدام المصطافين. بينما اليوم، سيطر على المشهد الهاتف الذكى، وأصبح مصدر الترفيه الأول، من بث الأغانى الحديثة عبر سماعات البلوتوث، إلى متابعة مقاطع الفيديو القصيرة. وحتى الشاطئ لم يعد هادئًا كما كان، إذ انتشرت الحفلات النهارية التى تضم مطربين وراقصات، لتتحول أجواء الصباح إلى مهرجانات صاخبة تسجلها صور ولايفات السوشيال ميديا. فعاليات التسوق بينما كانت المحلات فى المصايف قديمًا تقتصر على البقالة ومستلزمات البحر، علاوة على بعض الأكشاك التى تبيع الجرائد والكتب. لم يكن التسوق جزءًا من أجندة المصيف، بل كان التركيز على الاستجمام والبحر. وعلى خلاف هذا أصبح الساحل الشمالى بحد ذاته مركزًا تجاريًا صيفيًا كبيرًا. حيث انتشرت المعارض التى تنظمها إعلاميات ومؤثرات على مواقع التواصل الاجتماعى، لبيع الملابس والإكسسوارات والحقائب، سواء من ماركات عالمية أو منتجات محلية، وتشهد هذه المعارض إقبالًا كبيرًا من المصطافين، حتى أصبح البعض يخطط لزيارة المصيف من أجل حضور هذه الفعاليات. وما بين اختلافات الماضى والحاضر نستنتج أن تغيّر المصيف المصرى هو انعكاس لتغيّر المجتمع نفسه إذ أصبحت التكنولوجيا والفعاليات الترفيهية جزءا من متعة الصيف.من بساطة الأمس التى جعلت الاستمتاع متاحًا للجميع، إلى فخامة اليوم التى جعلت التجربة أكثر حصرية. ومع كل هذه التغيرات يظل الصيف المصرى ذاكرة حية، تتجدد ملامحها مع كل جيل، لكنها لا تفقد سحرها أبدًا. 2