على شاطئ بحرٍ لا يهدأ، ومدينةٍ تفتح ذراعيها صيفًا وتلوذ بالصمت شتاءً، تبقي المصايف المصرية، حكايةٌ لم تُكتب على الورق بقدر ما نحتتها الرياح والذكريات على جدران الفيلات القديمة ورمال الشواطئ الممتدة، من رأس البر، مصيف المشاهير يومًا ما، إلى العلمين الجديدة، موضة علية القوم الآن.. رحلةٌ من الزمن الجميل إلى واقعٍ سريع التبدّل، تختزل كيف تغيّر ذوق المصريين وأحلامهم مع نسائم الصيف. رأس البر.. مصيف المشاهير وعصر الفن الذهبي في النصف الأول من القرن العشرين، كانت رأس البر أشبه بلوحة فنية مرسومة على صفحة ماء بين النيل والبحر المتوسط، لم تكن مجرّد مصيف شعبي، بل كانت قبلة أهل الفن والأدب وكبار العائلات. هناك، كانت نجمات السينما المصرية يرتدين القبعات العريضة ويتهادين على الكورنيش الخشبي، بينما يكتب شعراء مصر خواطرهم في المقاهي المطلة على الشاطئ. في مقهى «الدورين»، جلس نجيب الريحاني يحكي حكاياته الطريفة، بينما يتأمل إحسان عبد القدوس الموج ليلهمه بأفكارٍ جديدة. رأس البر لم تكن تكتفي بالبحر، بل كانت تفخر ب«اللسان»، تلك البقعة السحرية حيث يعانق النيل البحر، في مشهدٍ يليق بنهاية فيلمٍ كلاسيكيّ، هناك، وُلدت قصص حبّ وانتهت أخرى، ورُسمت ملامح مدينةٍ أراد أهلها أن تبقى على بساطتها، فكانت الأكواخ الخشبية هي السكن المفضل، حتى لكبار العائلات. لكن بمرور الوقت، تغيرت ملامح رأس البر، وتراجع حضور الفنانين والنخبة، وغابت أسماء بيوت العائلات الكبيرة، ليحلّ محلّها صخب السياحة الشعبية، فتحول الكورنيش القديم إلى مطاعم سريعة، وازدحمت الشواطئ بحشود تبحث عن نسمة هواء رخيصة. ورغم ذلك، ظل في رأس البر شيءٌ من السحر، يلمحه من يعرف كيف يقرأ تاريخ الأمكنة، أو يسمع صدى ضحكات من عاشوا هنا قبل نصف قرن. المنتزه المنتزه.. شاطئ الملوك وحدائق التاريخ في الإسكندرية، المدينة التي لا يُذكر الصيف إلا ويُذكر اسمها معها، وفي قلبها، يقف قصر المنتزه شامخًا، يروي حكاية العائلة المالكة التي جعلت من هذا المكان ملاذًا صيفيًّا خاصًّا. أنشأه الخديوي عباس حلمي الثاني عام 1892، ليكون مكانًا للراحة بعيدًا عن صخب القاهرة، تحيط بالقصر حدائق واسعة، ونخيلٌ عتيق يراقب زائريه منذ عشرات السنين، في تلك الحدائق، كان الملك فاروق يتمشّى صباحًا، وربما يفكر في قراراتٍ مصيرية بين ضحكات بناته والأميرات. لم يكن المنتزه شاطئًا عاديًا، بل كان رمزًا للفخامة والانفراد، حيث لا يدخله إلا علية القوم، حتى البحر هنا بدا أكثر هدوءًا ورقيًّا، ينساب برفق إلى الشاطئ الرملي، كأنه يعلم أن أمامه قصورًا ملكية. بعد ثورة يوليو 1952، فتحت الدولة أبواب المنتزه أمام الناس، وتحول من مصيفٍ ملكي مغلق إلى حديقة عامة ومصيفٍ للجميع. ومع ذلك، بقيت بعض القصور قائمة لتذكّر الزائرين بما كان هنا.. وبما لم يعد. بلطيم مصايف الشعب.. بلطيم، جمصة ورأس البر الجديدة مع توسّع الطبقة المتوسطة، ولد حلم المصيف الجماهيري، لم يعد البحر حكرًا على الأرستقراطية، فامتلأت الشواطئ الجديدة في بلطيم وجمصة ورأس البر الحديثة بالعائلات البسيطة. هنا لا تجد القصور، بل الشاليهات الصغيرة أو الأكواخ الخشبية البسيطة، لا أسماء مشاهير ولا صخب كاميرات، بل وجوه مصرية عادية تبحث عن الراحة والهروب من حرارة القاهرة والدلتا. كانت تلك المصايف تحمل روحًا مختلفة: دفء العائلات، الروائح الشعبية، الذرة المشوية، صوت المذياع ينقل مباراة الأهلي والزمالك، وضحكات الأطفال في الماء. ورغم بساطتها، صنعت هذه المصايف ذاكرةً جماعية لطبقاتٍ كبيرة من المصريين، وربما كانت صورتها الفقيرة جزءًا من سحرها، الذي لا يعرفه سوى من عاشه. الساحل الشمالى.. الساحل الطيب والساحل الشرير في التسعينيات، تغيّر كل شيء مع ولادة «الساحل الشمالي». امتدت القرى السياحية على البحر الأبيض المتوسط من الإسكندرية حتى مرسى مطروح، فتحوّلت الفيلات والشاليهات إلى رموز جديدة للرفاهية. في البداية، كان «الساحل الطيب» مصطلحًا شعبيًّا يشير إلى القرى الأقدم مثل مراقيا، مارينا، والعجمي، حيث تذهب العائلات الكبيرة معًا في أجواء ودودة، كانت المصايف هناك أقلّ بهرجة، وأقرب إلى فكرة الراحة العائلية التقليدية. ثم ظهر «الساحل الشرير» في الألفية الجديدة: قرى فاخرة، منتجعات مغلقة بأسوار عالية، حفلات صاخبة تمتد حتى الفجر، دي جي عالميون، ومشاهير السوشيال ميديا. هنا، لا يُنظر إلى البحر بقدر ما يُنظر إلى من يجلس بجانبك، وما ترتديه، وأي صورة ستنشرها على إنستجرام. ورغم هذا الانقسام، يجمع الساحل الشمالي كله بين رمال بيضاء ناعمة ومياه تركوازية شفافة، تجعل منه لوحةً بديعة، حتى لو اختلفت الفلسفات والأذواق. العلمين الجديدة العلمين الجديدة.. مصيف المستقبل وفي السنوات الأخيرة، وُلد نجمٌ جديد: «العلمين الجديدة». مدينة عصرية تبنيها الدولة على ساحل البحر، بمبانٍ شاهقة وممشى عالمي وفنادق خمس نجوم. لم تعد الفكرة شاطئًا فقط، بل مدينة كاملة للحياة الراقية، تمتد صيفًا وشتاءً، هنا، تُقام المؤتمرات والمعارض الدولية، وحفلات نجوم الغناء العرب والأجانب. العلمين الجديدة ليست مجرد امتداد للساحل، بل مشروعٌ طموح لتغيير خريطة المصايف في مصر، كأنها تقول: لم يعد المصيف هروبًا مؤقتًا، بل أسلوب حياة متواصل. أسطورة الإسكندرية.. العاصمة الصيفية لمصر ليست الإسكندرية مجرد مدينة ساحلية، بل أسطورة صيفٍ لا ينتهي، وحالة عشق متجددة مع كل موجةٍ تلمس شاطئها، منذ زمن الخديوي وحتى العقود الأخيرة، ظلت الإسكندرية عاصمة المصيف في وجدان المصريين؛ تفتح ذراعيها لهم كل صيف، وتغمرهم بنسيم بحرها، وقطرات مياه البحر وذكريات لا تُنسى. في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كانت «عروس البحر الأبيض المتوسط» مقصدًا للملوك والأمراء والكتّاب والفنانين؛ من كورنيشها الشهير، إلى مقاهيها التاريخية في محطة الرمل والمنشية، حيث تُكتب القصائد وتُروى الحكايات. الإسكندرية ليست مجرد شاطئ؛ بل متحف مفتوح للتاريخ والحياة: ترامٌ أصفر يمرّ كذكرى قديمة، ومكتبة الإسكندرية التاريخية تعبق برائحة الكتب القديمة، وأسواقٌ تحتفظ بروح الزمن الجميل. ورغم ظهور الساحل الشمالي والعلمين الجديدة كمصايف عصرية، تبقى للإسكندرية هيبتها الخاصة؛ مدينة تتزيّن كل صيف بطبقات من الحنين والجمال والدفء الإنساني الذي لا تشيخه الأيام. إنها أكثر من وجهة سياحية؛ إنها مدينة تهمس في أذن زائرها: «مرحبًا بك في عروس البحرالمتوسط... عد متى شئت، فقلبي لا يُغلق أبدًا».
المصيف بين الأمس واليوم عبر هذا المشهد البانورامي، يبدو أن البحر بقي هو البحر، بأمواجه ورائحته المميزة، لكن المصريين وحدهم هم من تغيّروا، تبدّلت الطبقات، وتغيّرت الأولويات. في الماضي، كان المصيف راحة وهدوءً وهروبًا من صخب المدن، واليوم أصبح استعراضًا على شاطئ إنستجرام. في الماضي، كان المصيف مكانًا للكتب والروايات والخواطر، واليوم أصبح مكانًا للصور والفيديوهات. ومع ذلك، تظل للمصايف المصرية مكانة خاصة في قلوب الملايين، لأن وراء كل صورة قديمة على شاطئ رأس البر أو المنتزه أو حتى جمصة، حكاية عائلة، وحلم صيفي لم يكتمل أبدًا. ذاكرة المدن.. أكثر من رمال ومبانٍ أكثر ما يلفت الانتباه في حكاية مصايف مصر ليس الشواطئ نفسها، بل البشر الذين مرّوا بها، المدن تحتفظ بذكرياتنا مثل كتابٍ مفتوح، تكتب صفحاته الرياح وتقرؤها الأجيال. في رأس البر القديمة، لا تزال الأكواخ الخشبية تشهد على ضحكات نجوم السينما، وفي المنتزه، يقف القصر الملكي شاهدًا على تاريخٍ مضى، وفي الساحل الشمالي، تُحفر أسماء القرى السياحية الجديدة في ذاكرة جيل يبحث عن الفخامة أكثر مما يبحث عن البحر نفسه. رغم الفروق بين مصايف النخبة والمصايف الشعبية، ورغم تحوّل الذوق العام من التواضع إلى التباهي، بقي البحر صادقًا مع عشّاقه، لا يزال هناك مَن يذهب إلى رأس البر ليجلس صامتًا أمام الغروب، ولا يزال في بلطيم وجمصة مَن يقرأ كتابًا على الشاطئ، وحتى في الساحل الشمالي والعلمين الجديدة، لا بدّ أن يلتفت أحدهم يومًا عن هاتفه، ليتأمل الموجة التي تنكسر على الشاطئ في صمتٍ مهيب. وهكذا، تكتمل بانوراما المصايف المصرية كلوحة فسيفساء: قطعٌ من ذكريات الملوك، ولمسات من ضحكات المشاهير، وألوانٌ من أحلام الطبقة الوسطى، تلتقي جميعها على شاطئٍ واحد، يُغسله البحر كل صباح. على البحر.. تُكتب القصائد وتُولد الأغانى المصيف في مصر ليس رحلة إلى البحر، بل فصلٌ من فصول الحكاية المصرية، عبر عقود طويلة، نسج البحر حوله عشرات القصص الفرعية التي تستحق أن تُروى، لتكتمل صورة المصايف كبُعدٍ ثقافي واجتماعي وجمالي. كانت المصايف، وخصوصًا الإسكندرية ورأس البر، مسرحًا سريا لإلهام كبار الأدباء والشعراء، هناك كتب كامل الشناوي أجمل قصائده، ودوّن إحسان عبد القدوس ملاحظاته التي صارت بعد ذلك روايات. حتى أغنيات الصيف الشهيرة لم تولد في الاستوديوهات وحدها، بل وُلدت في أمسيات البحر، عندما كان الملحنون يجلسون على الشاطئ، يتأملون حركة الأمواج وينسجون ألحانًا ستصبح لاحقًا جزءًا من الذاكرة. وكان المصيف أيضًا موسمًا للقراءة، في مكتبات الإسكندرية القديمة، فيشتري المصيفون روايات نجيب محفوظ ويوسف إدريس لترافقهم على الشاطئ. ولا يزال حتى اليوم كثيرون يحتفظون بتقليد حمل كتابٍ إلى البحر، كأن القراءة أمام الأمواج تُعطي للكلمات روحًا إضافية. ملابس المصيف ملابس المصيف.. تاريخ من الموضة والألوان في الماضي، كان للمصيف طقوسه الخاصة في الملبس، القبعات العريضة، فساتين البحر المخططة، والمظلات الملونة التي تصنع مشهدًا بديعًا على الرمال. كانت ملابس المصيف يومًا ما عنوانًا للأناقة الهادئة والذوق الأرستقراطي؛ في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، امتلأت شواطئ الإسكندرية ورأس البر بالسيدات يرتدين فساتين فضفاضة مزركشة بألوان البحر، وقبعات واسعة تحميهنّ من الشمس، بينما الرجال يتأنقون في قمصان قطنية وبنطلونات قصيرة أنيقة. مع مرور العقود، تغيّرت الموضة وتبدلت الروح؛ في السبعينيات والثمانينيات صار المايوه الشعبي الملوّن بديلًا شائعًا، وظهرت الفساتين القطنية القصيرة والنقوش الجريئة التي عكست روحًا أكثر حرية ومرحًا. ثم جاء عصر القرى السياحية الفاخرة في الساحل الشمالي، ليعيد إلى ملابس المصيف طابعًا مختلفًا؛ حيث أصبحت الأزياء وسيلةً لإبراز المكانة الاجتماعية والتميّز، بفساتين صيفية من ماركات عالمية، وقمصان بألوان الباستيل، ونظارات شمسية فاخرة تُكمل المشهد. لكن وسط كل التغيّرات، ظلّ الأبيض والأزرق سيّدي الألوان، وكأنهما وعدٌ أبدي بين البحر وخزائن المصريين؛ أن تظل ملابس المصيف مرآةً للذوق والذاكرة والشغف بالموج. تحوّلت موضة المصيف من الحشمة الأرستقراطية في الخمسينيات إلى ملابس أكثر بساطة وشعبية في السبعينيات والثمانينيات، ثم عادت مؤخرًا إلى التميّز في الساحل الشمالي، حيث صارت الأزياء وسيلة لإثبات المكانة الاجتماعية. المصيف الشعبي والشاليه والفيلّا.. وراء ضجيج الشواطئ الشعبية، تختبئ صور حقيقية تشبه قصصًا قصيرة من الأدب المصري: صوت بائع الذرة المشوية الذي ينادي طوال النهار، والأطفال الذين يجمعون الأصداف ويبيعونها للسياح، والأسَر التي تفرش الحصير منذ الصباح الباكر لتحجز مكانًا قرب الشاطئ، والفريسكا. للمصايف في مصر وجوهٌ عديدة، تعكس اختلاف الطبقات والأذواق والأزمنة. في المصيف الشعبي، الحياة بسيطة وصاخبة؛ الأسر تفترش الشاطئ منذ الصباح الباكر بحصير قديم ومظلات قماشية، والأطفال يبنون قلاع الرمل حولهم، بينما يمرّ الباعة الجائلون بنداءاتهم المميزة ليكملوا لوحة الصيف الشعبي المليئة بالحياة والضحك العفوي، هنا، البحر للجميع بلا أبواب ولا أسوار. أما الشاليه، فيحمل طابعًا مختلفًا؛ بيت صغير أو وحدة متراصّة ضمن قرية سياحية، حيث يجتمع الأصدقاء أو العائلة في مساحة محدودة لكنها خاصة، في الشاليه يمتزج الهدوء بالحميمية، وتُكتب الحكايات بين شرفته وباب خشبي مطلّ على البحر، إنه حلم الطبقة الوسطى؛ مساحة تجمع الراحة والخصوصية دون تكلف. ثم تأتي الفيلّا كرمزٍ للأناقة والرفاهية؛ بناء واسع محاط بحديقة خضراء، وحمام سباحة أحيانًا. هنا، المصيف يصبح احتفالًا بالفخامة والصمت المترف، حيث لا يُسمع سوى صوت الموج من بعيد، وتتحول الإجازة إلى استعراضٍ للجمال والثراء. هذه الذكريات، رغم بساطتها، تصنع جوهر المصيف الشعبي، حيث الروح المصرية تتجلى في ضحكةٍ صافية لا تعرف التكلّف، في مصر، لم يكن المصيف بيتًا بديلًا فحسب، بل رمزًا اجتماعيًّا، الشاليه على البحر كان حلما للطبقة الوسطى، بينما الفيلّا الكبيرة على الشاطئ علامة على رفاهية العائلات الثرية. تتغير الأجيال، لكن تظل صور الفيلّات والشاليهات في ألبومات الصور العائلية شاهدة على عصرٍ كانت فيه فكرة «البيت الصيفي» حلما جميلا يُورّث للأبناء. ربما تغيّرت المدن والطبقات، لكن المصيف سيظل فصلًا من كتاب الهوية المصرية.