لم أظن يوما أننى سأكتب رثاء له، فقد اعتقدت أننى ربما أسبقه أو ربما نرحل معا، لكننى وجدت نفسى وقد حشرت حشرا أسعى فى جنازته، وأقف فى زحام عزائه تائها بين وجوه عرفت بعضها، ولم أعرف معظمها. وقلت فى نفسى: وداعا سيف! ووسط هذا وذاك كان وجه ليلى سويف، زوجته وحبه الأول والأخير، دائما هناك لا يفارق صورة سيف، التى أعرفها منذ كنا معا فى جامعة القاهرة. أدركت أننى أمام لحظة وداع جارفة تلتقى فيها الذكريات لكى تتجدد وتعيش ولا تفترق. كانت صورة أحمد سيف الإسلام عبد الفتاح، رفيق الدرب منذ التقينا، ونحن نقدم أوراقنا فى مكتب التنسيق بعد امتحانات الثانوية العامة عام 1969 تتجسد أمامى فى أشكال شتى تستدعى ما تشاء من الذكريات، منها تلك الصور على البوسترات والشعارات والهتافات المرفوعة فى كل مكان فى المنطقة المحيطة بمسجد صلاح الدين فى المنيل، وعلى طول الطريق من هناك إلى مدافن آل موسى، فى منطقة التونسى التاريخية، وفى داخل إطار الصورة دائما ترابط ليلى سويف وعائلتها الصغيرة الفريدة فى طبيعتها وفى تكوينها. وقلت فى نفسى: كنت دائما يا سيف تنتصر لإرادة الحياة على الموت. ولن تموت، بل ستبقى. وعلى حد تعبير صديقنا الشاعر زين العابدين فؤاد: «اللى معاه الناس ما يموتش»، وهذا حال أحمد سيف الإسلام عبد الفتاح ابن قرية الكوم الأخضر مركز حوش عيسى محافظة البحيرة، ابن مصر، الذى احتضنته شوارع بين السرايات وحوارى أبو قتادة طالبا، ثم تربع فى قلب مصر كلها بعد ذلك فى مسيرة كفاح طويلة وشاقة ودامية، من أجل إقامة مجتمع الحق والديمقراطية والعدالة. والآن يرقد جثمانه مستريحا فى مقابر التونسى. عندما اضطررنا، هو وأنا، فى أغسطس 1969 أن نبيت ليلتنا الأولى فى القاهرة، ونحن ننهى إجراءات الالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية لم يكن معنا ما يكفى من النقود، فقررنا أن نتشارك فى إيجار غرفة صغيرة لفردين فى فندق «إسبلنديد الجديد» فى شارع محمد على. كان المكان عبارة عن لوكاندة متهالكة، ورضينا بالسكن فيها، لأن إيجار الغرفة كان 20 قرشا فى الليلة نتقاسمها معا. وكان لدينا متسع من الوقت لكى نتحدث فى السياسة. كانت أحداث فبراير ونوفمبر 1986 قد ولدت روحا جديدة بين الشباب فى مصر كلها. وكنا فى دسوق قد أنشأنا حركة «شباب 68»، وقررنا بعد أن أصبحنا على أبواب الجامعة أن ننتشر فى كل جامعات مصر. وكان أحمد سيف الإسلام عبد الفتاح هو أول وجوه «شباب 68» فى جامعة القاهرة، انخرط سيف فى الحركة الطلابية بقوة فى داخل كلية الاقتصاد وخارجها. وفى مؤتمرات الجامعة السياسية ومظاهراتها وإضراباتها وتنظيماتها. اعتقل سيف مرات ومرات منذ يناير 1972 وحتى ثورة يناير 2011، ولم يتوقف أبدا عن العطاء خلال تلك الفترة الطويلة، وحتى رحيل جثمانه عن عالمنا فى 27 أغسطس 2014. لم تنهكه وقائع الاعتقال فى السبعينيات، لكن اعتقاله فى عام 1983 كان الأقسى أثرا على جسده وصحته، فقد تعرض سيف ورفاقه لتعذيب لا يقدر على تحمله إلا أكثر المناضلين صلابة وأشرسهم مقاومة وأشدهم عزيمة. ألقى القبض على سيف وتم اعتقاله على خلفية القضية المعروفة فى أوساط اليسار باسم قضية «المطرقة»، وهو اسم مجلة الحركة اليسارية التى انتمى إليها سيف طوال حياته السياسية، والمعروفة فى ملفات أمن الدولة باسم قضية «التنظيم الشيوعى المسلح». وقد خضع سيف ورفاقه خلال فترة الاعتقال والسجن لصنوف قاسية من كل ألوان التعذيب، تحملوا جميعهم، لكن مشقة الاحتمال تركت عليهم آثارها ليفقد بعضهم حياته بعد ذلك بسنوات. أذكر المرحوم المهندس السيد الطراوى، الذى ظل يعانى من آثار التعذيب بعد انتهاء مدة سجنه حتى رحل جثمانه عن دنيانا، والمرحوم الدكتور أحمد عبد الجواد التونى، الذى نال قسطا وفيرا من التعذيب حتى أصيب بالشلل، ثم غادر جثمانه دنيانا بعد انتهاء فترة سجنه بقليل. وبالنسبة إلى سيف فقد كان الوهن باديا عليه بقوة منذ خروجه من السجن بعد خمس سنوات أمضاها فيه. كانت ليلى بجانبه، وكان علاء ومنى وسناء ثم زوجة علاء وحفيده خالد يملؤون عليهما البيت دافئا غنيا بالحياة المتنوعة والنضال المستمر، من أجل حياة أفضل لأجيال سوف تأتى. وربما يخفف عن ليلى بعضا من فراق سيف، وجود علاء بجوارها، حبيسا كان أو طليقا، فالحرية هى أن تكون أنت هو أنت ولست غيرك. فأينما كنت إذن فإنك تكون إنسانا حقيقيا غير مزيف وغير مريب. وأظن أن علاء نفسه سيعتلى درجات أعلى فى فهمه للنضال، وفى ممارساته له بعد أن فقد ذلك السند، العمود الذى كانت تتحلق حوله هذه الأسرة بالمعنى الإنسانى للكلمة. تحية إلى ليلى ومنى وسناء، وتحية إلى خالد حفيد سيف وإلى والدته وإلى علاء، رمز من رموز الحاضر والمستقبل.. وداعا سيف.