كنت أجلس فى القطار عندما أخرجت التليفون المحمول من جيبى لإجراء مكالمة. لاحظت أن الشحنة على وشك النفاد فأسرعت أطلب الرقم، لكن التليفون فاجأنى ورنّ مرتعشا فى يدى معلنا عن مكالمة قادمة. قلت: ألو، فجاء الرد من الطرف الآخر: مساء الفل يا أستاذنا.. كيف حالك وما أخبارك ولماذا لا ترد على مكالماتى وأين ما وعدتنى به آخر مرة؟ قلت: من حضرتك؟ رد فى دهشة: وكمان مش عارف صوتى؟ لا أخفيكم أننى لا أكره فى الدنيا قدر مكالمة يلومنى صاحبها على أنى لا أعرف صوته. قلت فى هدوء: من سيادتك؟ قال فى فرحة لا مبرر لها: أنا ماهر. قلت: وهل تتصور أن معلوماتى قد زادت بعد أن عرفت أنك ماهر؟ رد مصدوما: جرى إيه يا أستاذ؟ أنا ماهر الذى تحدثت إليك منذ عدة شهور بعد نجاح الثورة وخلع مبارك.. ألا تذكرنى؟ على الرغم من أننى لم أتعرف عليه قلت: أهلا يا ماهر.. ممكن تكلمنى فى وقت آخر لأننى لست فى ظرف يسمح لى بمحادثتك الآن. قال: يبدو يا أستاذ أن ما يقولونه عنك حقيقى؟ قلت منزعجا: وماذا يقولون عنى يا أخ ماهر؟ أجاب: يقولون إنك تغيرت وإن نفسك كبرت ولم تعد كما عهدناك أيام زمان. فى الحقيقة أننى أمقت من يستخدم هذا الأسلوب فى الابتزاز، فيبادرك بالاتهام بأنك تغيرت ونفسك كبرت حتى يرغمك على احتمال رذالته، كى ما تثبت له أنك الشخص المتواضع عينه. قلت مستغربا: زمان إمتى يا ابن الناس.. هل تعرف من أكون أم تراك تظننى أحد معارفك؟ قال فى عتاب: طبعا أعرفك.. أولست الأستاذ فلان الذى يكتب فى الصحف ويظهر فى التليفزيون؟ قلت متضايقا: ماهر.. أنا خارج مصر الآن ومكالمتك هذه فضلا عن تكلفتها المالية، فإنها تقضى على شحنة الموبايل الذى أحتاجه فى أمور مهمة. قال فى جرأة: وهل التواصل مع قرائك ليس من الأمور المهمة؟ جال فى خاطرى كم أن هذا الشخص محظوظ لأنه لم يعرفنى فى السابق.. وقت أن كان بإمكانى أن أغلق التليفون فى وجهه مشيعا إياه بباقة مختارة من الشتائم. من حسن حظه أنه طلبنى بعد أن هذبتنى الأيام وهدأت من أخلاقى وجعلتنى أسعى فى طلب الثواب وألتمسه حتى فى تحمل مكالمات السخفاء! قلت: ماذا تريد يا ماهر؟ أنا تحت أمرك. رد متهللا: أهو كده.. هذا هو حبيبنا الذى نعرفه.. ثم استطرد: تذكر أننى حدثتك الشهر الماضى بخصوص فكرتك التى نشرتها عقب الثورة مباشرة. قلت له: أى فكرة تقصد؟ قال: فكرة أن يتبرع كل واحد منا بما لا يحتاجه من أجل الفقراء. قلت مستغربا: من الواضح أن هذه الفكرة الطيبة وصلتك من شيخ الجامع أو من القسيس، أو من كاتب آخر... أما أنا فلم لم أكتب شيئا كهذا أبدا! قال ماهر فى إصرار: أنا لم أصل إلى سن التخريف بعد ومتأكد يا أستاذ أننى قرأت لك هذه الفكرة، وقد أعجبتنى جدا، فلماذا تريد أن تحرم نفسك حقها فى الثناء؟ قلت له وقد بدأت أختنق: ماهر.. هل تعلم أننى موجود الآن فى قطار يقطع طريق سفر خارج مصر ولا أعرف عما تتكلم أو ماذا تريد بالضبط؟ وهنا تساءل ماهر فى دهشة: قطار خارج مصر؟ أين أنت بالضبط يا أستاذ؟ قلت: أنا مسافر من بروكسل إلى أمستردام. هتف فى جزل: يا وعدى!.. أنت تتجول فى أوروبا إذن وتتركنا هنا فى الغُلب! قلت: يا ماهر يا صديقى.. مكالمتك هذه تكلفنى مالا لأننى أستقبلها «رومنج». رد بسرعة: وهل مكالمتى لك مجانية؟ إننى أنا الطالب وأنا الذى يتحمل ثمن المكالمة. فى هذه اللحظة قررت أن أغلق الخط وأنهى هذه المهزلة. ويبدو أنه أحس بما أنوى أن أفعل فاندفع قائلا: وحياة أعز ما عندك لا تقفل السكة فى وجهى...وغدا نكمل).