د. عمرو عبد العزيز منير ظلّ المؤرّخون قرونًا طويلة يتجادلون فى لغز اختفاء الخليفة الفاطمى الحاكم بأمر الله: أهو اغتيال سياسى غامض؟ أم غيبة لاهوتية مقصودة؟ أم هروب درامى يليق بأبطال السير الشعبية؟ تأتى سيرة الحاكم بأمر الله لتقدّم جوابًا آخر لا يشبه كتب التاريخ، لكنه يليق تمامًا بمخيلة الشعوب التى تفضّل أن تعيد كتابة مصير ملوكها بطريقتها الخاصة. فى واحدة من أروع مشاهد السيرة نرى الحاكم مولعًا بكنز أسطورى اسمه «الهليلجة» واستغلّ خصمه عبد العزيز هذا الغرام، فقرأ كتب السحر، وأحاط بأسرار الكنز، ثم اصطحب الحاكم ليلًا متنكِّرَيْن فى ثياب العوام، وقصدا جبل المقطم. وهناك تركا مطيّتيهما لعبدٍ ناعس العينين، قبل أن يُضيئا نارًا سحرية تفتح لهما المدخل وما إن تلا عبد العزيز "بعض أسماء الله الحسنى" حتى سقط مفتاحٌ من العتمة، واهتزّ الجبل كأنّ الرعد يوقظه، وانشقّ الباب أمامهما. لم يكد الحاكم يدخل حتى انبهرت عيناه؛ فالذهب والجوهر يتلألآن فى القاعات، والمصابيح الفضية تضىء أروقةً واسعة، وتتحرك التماثيل المدرَّعة كأن الحياة دُفِعت فيها، وتدور دواليبُ خفية تولّد موجاتٍ فى بركة من الماء الأحمر القانى. وكانت الأبواب تُفتح بلمسة حجر كريم، ويبدو الكنز كله كأنّه معرض للدهشة والهندسة السحرية. وصل الرجلان إلى قاعة لا تُبلَغ إلا بقارب فوق بحيرة مسمومة عبراها، وحين وصلا إلى الضفة الأخرى، بدأ عبد العزيز تنفيذ خديعته. صاح: «هلّا أحضرت لنا شيئًا لنأكله؟» فانفتحت كُوّة، وظهرت صينية زجاجية تحمل وعاءين من العسل الأبيض كالثلج، ورغيفين كبيرين، وجَرَّتين من الماء. ناول الحاكم عبد العزيز رغيفًا، فقال الأخير: «أنا صائم!» فبدأ الحاكم يأكل فى نشوة، ولم يذق ألذَّ من ذلك العسل قط. فى تلك اللحظة تحرك عبد العزيز نحو القارب، وقفز إليه فجأة، وأمر الملاح بالابتعاد التفت الحاكم فإذا بالقارب يهرب، فصرخ: «إلى أين تذهب يا حاج عبد العزيز؟». فقال: «إننى ذاهب إلى مصر لأحكمها. وستبقى أنت هنا». وتوسّل إليه الحاكم: «بحق جاه النبى وصحبه، ارجع!». لكن عبد العزيز قال: «لك عندى ثأر، ولنا عندك مظلمة. ابق هنا أربعين يومًا... ثم نرى». وأغلق الأبواب السحرية وخرج، تاركًا الحاكم فى قلب الكنز، أسير ضعفه، مخذولًا بخيانة مَن عدّه يومًا حليفًا! يغلق المشهد على صورة الحاكم محبوسًا فى الكنز كما تُحبس الحكاية فى المخطوط: لا تخرج إلا إذا جاء من يفتح بابها. لكن السؤال الأهم بالنسبة لى لم يكن: أين اختفى الحاكم داخل السيرة؟ بل: أين اختفت السيرة نفسها كل هذه القرون؟ وكيف أُغلق كهفها النصّى، ومن يعيد فتح أبوابه؟ جاءت الإجابة من مكان لا يُتوقَّع: من جريدة أخبار الأدب، ففى فبراير 2007 قرأتُ حوارًا أجراه الكاتب محمد شعير – وبإيعاز من الأديب الحكّاء الكبير جمال الغيطانى – مع المستشرقة الألمانية كلاوديا أوت، أشارت فيه إلى وجود نص ضخم مطمور فى مخطوطات المكتبات الألمانية بعنوان سيرة الحاكم بأمر الله. قالت: إنها لن تتفرغ لتحقيقه؛ لانغماسها فى مشروع ألف ليلة وليلة، لكنها كانت – دون قصد – تُلقى الشرارة الأولى فى هشيم الحكاية. فبين سطور ذلك الحوار كان يتبدّى أن ثمة سيرة كاملة تنتظر من يبعثها؛ نص حاضر فى خزائن العالم وغائب عن قارئه الطبيعى منذ تلك اللحظة تحوَّل خبر صحفى واحد إلى المفتاح الذى فتح باب الكهف، وكأن السيرة كانت تنتظر مَن يسمع النداء القديم ليعيدها إلى الضوء. انطلقت المراسلات بينى وبين قسم المخطوطات الشرقية فى المكتبة الوطنية ببرلين؛ قدّمتُ نفسى كباحث مصرى فى السيرة الشعبية والتاريخ الثقافى، وأرفقتُ نماذج من عملى «سيرة فتوح البهنسا» و«سيرة فتوح مصر المحروسة» و«سيرة الملك البدرنار بن النهروان»، وهى نصوص بُنى تحقيقها على بعض مخطوطات محفوظة فى ألمانيا. فجاء الردّ سريعًا على غير المتوقع: رسالة ودودة تعترف بقيمة المشروع، وتعرض تصوير مخطوطات سيرة الحاكم وإرسالها، مع دعوة صريحة لزيارتى للمكتبة. وبعد أسابيع وصلنى رابطٌ خاص لتحميل السيرة المرقمنة خصيصًا لطلبى، ومصحوبًا بشعور عميق بأن هذه المؤسسة الأوروبية تُدرك حقًّا معنى الشراكة المعرفية، وكيف يُصان التراث حين يجد من يقرأه ويؤمن بقيمته. كان هذا الاكتشاف امتدادًا لرحلة أطول عاشتها السيرة نفسها؛ فقد جُلب عدد كبير من نسخها المخطوطة إلى المكتبات الأوروبية خلال القرن التاسع عشر، وتحديدًا إلى باريس ولندن وتوبنجن وغوتا وبرلين ومدن أوروبية أخرى. ومع ذلك، وعلى خلاف ما حظيت به السير العربية الكبرى مثل بنى هلال والظاهر بيبرس، لم تُطبع سيرة الحاكم قط، ولم تنل دراسة وافية؛ لا فى بحوث الدارسين المعاصرين، ولا فى سياق تاريخ دراسة الأدب العربى. ولم يرد اسمها صريحًا إلا مرة يتيمة فى مخطوط سيرة جودر الصيّاد، حيث ظهر ذكر «سيرة الحاكم» عابرًا بين المصنّفات التى سمعها الراوى وقرأها، كأنها ظلّ نصّ غائب ينتظر من يلتقط أثره. وقد نبّهت المستشرقة كلاوديا أوت فى إحدى دراساتها المبكرة إلى هذا الغياب اللافت، وإلى أن السيرة تكاد تختفى تمامًا من خرائط البحث رغم حضورها الواسع فى خزائن المخطوطات. وتكشف «نسخة برلين» عن رحلة مدهشة للنص ذاته؛ فهى تمتد فى نحو عشرين مجلدًا وصلتنا عبر قرنين من الزمن، من شذرات نسخ نَسَخها ناسخون متعدّدون، قبل أن تنتظم فى صورتها الراهنة بفضل سلسلة طويلة من القرّاء والجامعين. خرجت الطبقات الأولى من القاهرة، تُقرأ فى المجالس وتُنسخ فى الحارات والأسواق، ثم تابعت رحلتها إلى حلب التى ازدهرت فيها حياة السير الشعبية فى القرن الثامن عشر، وتكاثرت الهوامش على الصفحات كدلائل على جمهور حى يعلّق ويضيف ولا يكتفى بالسماع. ومن القاهرة أيضًا تسلّلت بعض القطع عبر «سوق السلاح» الشهير، ذلك السوق الذى جمع تجارة الكتب بالمخطوطات الشعبية، قبل أن تلتقطها أنظار جامعى القرن التاسع عشر، وفى مقدّمهم القنصل البروسى يوهان جوتفريد فتسشتاين، الذى رأى فى السير الشعبية العربية «أرشيفًا للوجدان الشرقى» فجمع منها ما استطاع، وحملها معه إلى برلين، ليصبح نصٌّ وُلِد فى أزقة القاهرة جزءًا من رصيد المكتبة التى ستغدو لاحقًا «المكتبة الوطنية الألمانية». لم يكن هذا الجهد ليستحق العناء لو أنّ السيرة مجرد حكاية تسلية. الحقيقة أنها نصّ استثنائى يقف فى برزخ نادر بين التاريخ والأسطورة. شخصية الحاكم التى رآها المؤرخون مزيجًا من الجنون والتألّه والبطش والزهد، تتحوّل فى السيرة إلى مرآة واسعة يعيد الناس من خلالها تخيّل الحاكم الذى يريدونه، لا الذى فرضته السلالة الفاطمية الحاكمة. فى هذا النص يصنع المصريون موازينهم الخاصة للعدل والظلم والسلطة، ويختبرون – على لسان الراوى – كيف ينبغى أن يكون السلطان العادل، وما حدود صبرهم! سيرة الحاكم ليست ملحمة ضخمة فحسب، بل مشروع سردى يعيد تشكيل بطل واحد فى صور متعددة: فارسًا، وحاكمًا، ورمزًا سياسيًا وكل طبقة من طبقاتها تضيف إليه معنى جديدًا، حتى يغدو شخصية شعبية مركّبة تُختبَر عبرها فكرة العدل والسلطة، وتبقى نهايته فى غيبة مفتوحة جزءًا من طقوس الذاكرة الشعبية فى صناعة أبطالها. وكما تُبرز السيرة شخصية الحاكم، فإنها تُظهر جيش مصر قوةً تقف إلى جانب سلطانها فى الملمّات، درعًا للبلاد وسندًا لأهلها، وعنصرًا رئيسيًا فى مشهد البطولة الجماعية التى ترسمها الرواية الشعبية. وفى قلب السيرة تتقدّم النساء إلى موقعٍ لا يشبه ما نألفه فى نصوص التراث؛ زوجاتٌ وأمهاتٌ وبناتٌ يمسكن بخيوط السرد، ويحرّكن القرار السياسى والاجتماعى، حتى تبدو القاهرة نفسها –كما يصوّرها النص– طفلةً تبنى مدينة، ابنةً لفاطمة وعبد العزيز (الخليفة الأخير الذى تلقّب بالملك المعز)، تطلب من أبيها قلعةً تحمل اسمها. وهكذا ترسم السيرة تاريخًا نسويًّا موازيًا لتاريخ الرجال، حتى يصحّ وصفها بأنها «الوجه الأنثوى لتاريخ مصر». وفى أحد المشاهد شديدة الدلالة، تظهر القاهرة – وكانت فى السابعة من عمرها – تخاطب أباها قائلة: «مولاى، أريد أن أبنى قلعة لنفسى، حيث أعيش مع أترابى، وتكون القلعة بعيدة عن طريق مصر، وتُسمّى القاهرة باسمى!». تعود أقدم النسخ المملوكية من السيرة التى وصلت إلينا إلى عام 833ه/1430م. وهى تمثّل أقدم شاهد كامل على النص فى صورته الشعبية، وتكشف عن مرحلة مبكرة من تشكّل السيرة فى القاهرة المملوكية؛ مرحلة تمتزج فيها لغة المدينة بروح الحِرَف والأسواق، ووعظ العلماء، وتقاليد الحكّائين. ومن هذه النسخة الممهدة انطلقت الطبقات اللاحقة التى جعلت السيرة موسوعةً حيّة لعلوم الصناعات والحرف والطب والجراحة والفلك والتنجيم والتحليل الموسيقى وخيال الظل؛ تمتزج فيها «المعرفة العليا» باللسان الشعبى، ويختلط فيها الخيال العلمى اليومى بعوالم السوق والحِرَف وشوارع القاهرة القديمة. وتتعدّد طبقات السيرة بتعدّد نسخها: نسخة فاطمية المذهب والهوى مبكرة تنبض بروح القاهرة الأولى، ثم النسخة المملوكية المؤرَّخة التى أعادت صياغة الرواية بروح زمانها ونَفَسه الأدبى، ونسخة قاهرية لاحقة تُسقط على الحاكم ملامح صلاح الدين فى رموز سنّية واضحة، حتى يبدو النص أحيانًا كأنه قراءة شعبية لصورة السلطان العادل تحت قناع خليفة فاطمى. وهكذا لا تتعامل الذاكرة المصرية مع السيرة بوصفها حكاية ثابتة، بل كنصٍّ حى يعيد تشكيل رموزه السياسية والاجتماعية وفق ما يقتضيه العصر، ويستجيب لمخاوف الجماعة وآمالها عبر القرون. مع مرور الوقت أدركت أن المراسلات مع برلين ليست سوى نصف الطريق؛ كان لا بد أن أصل إلى الشخص الذى كان اسمه على رأس شرارة البداية: كلاوديا أوت. وحين تواصلنا للمرة الأولى وجدتها كما توقعتها: متواضعة بلا تصنّع، حادة البصيرة، شغوفة بالنصوص، دقيقة فى تتبّع تفاصيل المخطوط إلى حدّ الوسواس العلمى. أخبرتها كيف قادنى الحوار فى أخبار الأدب إلى السيرة، وكيف كانت جملتها عن تفرّغها لألف ليلة وليلة هى الشرارة التى دفعتنى إلى هذا الطريق الطويل. ضحكت وقالت إنها لم تتوقع أبدًا أن تتحوّل تلك الجملة العابرة إلى مشروع مشترك يتجاوز حدود القارات. توالت المراسلات واللقاءات بين القاهرةوألمانيا، حتى تبلور أمامنا مشروع علمى واضح: كتاب يجمع التحقيق والتحليل، يُعيد تقديم سيرة الحاكم بأمر الله بوصفها وثيقة ملحمية تكشف عن مخيال سياسى ودينى واجتماعى لا يزال حيًّا فى وجدان المصريين تقدّمنا بهذا المشروع إلى مؤسسة جيردا هنكل ضمن برنامجها الخاص ب «التاريخ الفكرى العالمى»، فجاء القبول كريمًا وسريعًا، ثم تتحوّل الشراكة إلى زمالة علمية ثنائية تجمعنى بكلاوديا أوت تحت سقف مركز أبحاث غوتا بجامعة إرفورت، فى قلب واحدة من أهم مكتبات المخطوطات العربية فى أوروبا. فى قصر فريدنشتاين، مقر مكتبة غوتا، وقع اللقاء الأعمق بيننا وبين المخطوطات. دخلنا قاعة المحفوظات كما يُدخِل الراوى المستمعين إلى سرداب مجهول. كان فى الفهارس ذكرٌ لقطعة صغيرة من السيرة توصف بأنها «ورقة من حكاية»، لا توحى بشىء أكثر من مقطع عابر. لكن القراءة الدقيقة كشفت عن أن هذا الكتيّب الهزيل يخفى رواية مكتملة البناء، ذات نَفَس مصرى واضح، تحمل روح العصر الفاطمى، وتتقاطع فيها مشاهد البيعة ووصف الصناعات وطقوس العلماء والموسيقيين فى حضرة الحاكم، كأنها مقدمة افتتاحية أصيلة للنص كله ثم جاءت المفاجأة الأكبر أثناء تتبّعنا لكراريس غير مفهرسة بدقة ضمن مجموعة ضخمة من الأوراق المتناثرة؛ إذ لفت انتباهنا نسق لغوى مألوف وموتيفات تتكرر: الكمين، التمويه، الحروب مع الفرنج. ومع مزيد من التدقيق تبيَّن أننا أمام جزءين متتابعين من نسخة كاملة كانت قد فُقدت. لم نَعُد أمام ورقة، بل أمام ثلاث مخطوطات تمثّل كنزًا منفردًا من مخطوطات السيرة لم يكن قد نال حظّه من الفهرسة والقراءة. بهذا الاكتشاف ارتفع عدد النسخ والقطع المعروفة للسيرة إلى أكثر من عشرة مخطوطات، وأصبحت غوتا – على صِغَر حجمها مقارنة بباريسوبرلين – صاحبة أكبر مجموعة عالمية من نص الحاكم بأمر الله لم تعد السيرة وجودًا مبهمًا فى ذاكرة الباحثين، بل صار لها «بيتٌ» حقيقى، وخزانة مركزية، ومسارًا واضحًا يمكن تتبّعه بين القارات. وقد أثار هذا الكشف اهتمامًا واسعًا فى الأوساط البحثية الأوروبية؛ إذ خصَّص موقع «قَلَموُس» (Qalamos) – عبر منصّة Hypotheses العلمية – تقريرًا موسّعًا حول أهمية العثور على هذه النسخ الجديدة، ورأى فيه خطوةً تعيد فتح ملفٍّ منسى فى تاريخ السرد الشعبى العربى، وتسلّط الضوء على نص ظلّ غائبًا رغم حجمه وقيمته وفرادته. منذ اللحظة الأولى، لم نرد لهذا العمل أن يبقى حبيس قاعات البحث كان حلمنا أن تعود السيرة إلى أصلها الحكائى: نصّ يُروى بصوت عالٍ، لا يُقرأ فى صمتٍ أكاديمى فحسب. لهذا انطلقت سلسلة من الفعاليات فى غوتا وكوبورغ وبرلين ومدن ألمانية أخرى جمعت بين المحاضرة والعرض الحكائى. كنّا نقرأ مقاطع مختارة بالعربية كما لو كنّا فى مقهى من مقاهى القاهرة القديمة، تتلوها كلاوديا بالألمانية، فيتجاور الصوتان على خشبة صغيرة تذكّرنا بأن الحكايات لا تعرف حدود اللغات. كان الجمهور الألمانى مذهولًا. رأى بعضهم فى الكهوف والأبواب السحرية والكنوز صدى لحكايات الأخوين غريم والأساطير الجرمانية، لكن فى مرآة شرق- متوسطية مختلفة وتوقف آخرون طويلاً أمام البعد الموسوعى للنص، وسألوا بإصرار: لماذا لم يسمعوا عن هذه السيرة من قبل، رغم معرفتهم الوثيقة بألف ليلة وليلة؟ أما الحضور العربى من مهاجرين وطلاب فقد استعادوا النص كجزء من ذاكرتهم العائلية، وروى كثير منهم قصصًا سمعوها عن بيبرس وذات الهمة وأبى زيد الهلالى، فرأوا فى الحاكم حلقة مفقودة فى سلسلة طويلة من الذاكرة الشعبية. أظهرت هذه اللقاءات أن السيرة تعمل بوصفها مرآة مزدوجة، فهى للقارئ العربى مساحة لاستعادة تراث لم يُستنفَد بعد، وترميم علاقة قديمة بين الثقافة الشعبية والمخيال السياسى، وطرح أسئلة عن صورة الحاكم العادل وحدود الذاكرة الشعبية فى إعادة تشكيل السلطة. وهى للقارئ الألمانى والأوروبى نافذة مغايرة على العالم العربى والإسلامى، تُبيّن أن الثقافة العربية ليست فقط كتب فقه وسير علماء، بل أيضًا ملاحم شعبية ثرية تمتلك تقاليد سردية موازية لتقاليد أوروبا نفسها، وتشترك معها فى موتيفات الكهف والكنز والبطل الغائب والمدينة المتخيَّلة وبطولات النساء. بهذا المعنى، تبدو صورة الحاكم المحبوس فى كهف «الهليلجة» تحت جبل المقطم أقرب إلى استعارة دقيقة لما جرى للسيرة ذاتها. فقد ظل النص قرونًا حبيس كهوف المكتبات، تحرسه الأختام والهوامش القديمة، ولا يفتحه أحد إلا لمامًا. حتى خرج النص من عتمته وأطلّ على جمهور جديد بلغتين وقارتين وزمنين مختلفين. اليوم، ونحن نعمل على استكمال تحقيق السيرة وترجمتها، ونستعد لإصدارها مع واحدة من أهم دور النشر العالمية، يحدونا أمل عميق بأن ترى هذه السيرة النور أيضًا فى وطنها الأم، مصر، فى طبعة تليق بتاريخها وقيمتها ومكانتها فى الذاكرة الشعبية. إن نشر سيرة الحاكم بأمر الله فى مصر لن يكون مجرّد إضافة إلى رفوف المكتبات، بل خطوة فى استعادة صوت الحكّاء القديم، وإعادة وصل الأجيال بحكايات صنعت الوعى الجمعى عبر قرون طويلة. فكما خرج الحاكم من كهفه فى مخيلة السيرة، ينبغى أن تخرج الحكاية نفسها من ظلمة الأرشيف إلى نور القراءة العامة، لتعود جزءًا من سرد مصر الكبرى؛ مصر القادرة دومًا على الحكى والإصغاء، وبناء مستقبلها بأجنحة تراثها الحى. ولكى تكتمل الرحلة، أضع بين يدى القارئ شذراتٍ من السيرة – فى صيغتها المعدّة للنشر الصحفى – ومشاهد من نسختها المملوكية التى ما تزال تفوح برائحة القاهرة القديمة وصوت راويها. غير أنّ ما يُقدَّم هنا مجرد شرارة؛ فالسيرة عالمٌ لا يُختصر، ونفَسٌ حكائى لا يُحاط به. إنها مرآة الذاكرة الشعبية للحاكم ومصر معًا. وما هذه الصفحات إلا بابٌ صغير يفتح على عالمٍ ينتظر قارئه ليعود حيًّا بسحره الأول. قال الراوى: فأحبَّ الحاكمُ فى ذلك اليوم أن يركب ويتفرّج فى الأسواق؛ فركب، وركب معه علْمُ الدين الوزير، وسعيدُ الخادم، وركبت أكابرُ العساكر. وبينما الناسُ فى فرحٍ وهَرَجٍ ومَرَجٍ، ومزاحٍ، ودَخْلٍ وخَرْج، وأهلُ مصر –ويومُ عيدهم– فرحون ومسرورون، إذ بصُراخٍ يعلو فجأة، فصار الناسُ فى جَلَبَة عظيمة. فالتفت الحاكمُ وقال لسعيد الخادم: امضِ واكشفْ لنا الخبر. فغاب قليلًا، ثم عاد وهو يضرب يدًا على يد، ويستغيث. فقال الحاكم: ما الخبر؟ فقال سعيد: يا سيّدى، قد قُتِل من أكابر مصر جماعة، وانتُهِبَتْ معايشُ المتسبّبين كلُّها. فقال الحاكم: لا حول ولا قوة إلّا بالله العلى العظيم، إنّا لله وإنّا إليه راجعون. قال الراوى: وكان السبب فى ذلك أمرًا عجيبًا؛ إذ كانت جماعة من العرب نازلين على جانب النيل، وهم جمع كثير، وبينهم سودانٌ كأنّهم الغربان فدخل بعضهم إلى المدينة، فرأى معاشًا ونقدًا ودراهم وحلاوات، وأهلَ المدينة فى فرحٍ وزينة. فرجع السودانُ وأخبروا العربَ بما رأوا، فحدّثتهم أنفسهم أن ينهبوا المدينة، فركبت العربُ والعبيد وهجموا على المدينة، وكانت العبيدُ نحو خمس مئة عبد، والعربُ ألفَ فارس، فكبَسُوا المدينة – كما ذكرنا – ونهبوا منها شيئًا كثيرًا، وقتلوا، ثم ارتدّوا طالبين البِلاد. فوافق ذلك وصولَ الحاكم فى تلك الساعة – كما وصفنا – وأخبره سعيدُ الخادم بما كان. فلما سمع الحاكمُ ذلك الكلام، صار الضياءُ فى عينيه ظلامًا، وزعق على سعيد الخادم: ويلك! اتبعنى ولا تخَف. ثم نادى فى جنده: اقطعوا بين الناس وهؤلاء الحرامية، لئلا يرجعوا عليهم. ثم ركب الحاكم الجواد، وسعيد الخادم معه، وسارا عَرضًا عن الطريق وكان تحته جوادٌ سابق من أفخر جياد الخيل، فسبق العربَ والعبيد إلى صدر البَرّ، وجاء من قدّامهم، وصاح صيحة عظيمة: ادُّوا منه البَرَّ! وصاح بقوله: الله أكبر! فَتَحَ اللهُ ونصرَ، وأخْذَلَ مَن كفر. ونادى على سعيد الخادم: احمِ ظهرى، وتفرّج على كرِّى وفَرِّى. وكان الحاكم قد علّم سعيدًا الفروسية. ثم قال له: هذا يومك؛ دِر بالك. إن رأيتَ أحدًا يأتينى من خلفى فأعلِمْنى. ثم حمل الحاكمُ على القوم، وكان عليه ثيابُ العيد لا ثياب الحرب، وما معه غير سيف واحد فى جرابه. فحمل وهدر وزجر، كأنه الأسد إذا اندغَر، وجعل يضرب فيهم ضربًا لا يُبقى ولا يَذَر، يحمل عليهم ذات اليمين وذات الشمال. فلما رأته العربُ والعبيدُ كذلك، حملوا عليه بأجمعهم وطلبوه. وكان الحاكم فى ذلك اليوم لابسًا ثيابًا مفتخرة مليحة، كأنه خارجٌ فى يوم عيد سعيد، وقد جرّد حسامه وهدر، وشمّر عن ساعديه، ولم يلتفت إلى مَن أمامه، يطلب من جواده السرعة من غير سرج، حتى قصد سواد القصطل، وأشعل نار الحرب، وضرب فيهم ضربًا، وأى ضرب! وبينما الحاكم يصُول ويجول، ويمدّد الأبطالَ عَرضًا وطولًا، إذ أقبلت شِرذِمة من العبيد نحو ثلاثمئة عبد. فما فزع منهم، ولا ارتاع، بل مدَّ إليهم الباع، وصرخ صيحة: ادُّوا منه البقاع! ونادى: أنا الحاكمُ الشجاع، والبطلُ المَنّاع؛ لا مَحالَ ولا خِداع، بل للرقاب قَطّاع، اليوم أروى من دمائكم البقاع. ثم صاح فيهم، فأخمد زعقاتهم، وكسر بالسيف رماحهم، ولم يفزع من صفاحهم، ولا من عظيم صياحهم. وكلما مدّوا إليه الرماحَ أَبْرَاها بسيفه، ويسقيهم شراب حتفهم، حتى حاروا مما شاهدوا من الطعن والضرب، وانبهر كلُّ مَن كان فى ساحة الحرب. قال الراوى: ولمّا رأى العربُ والعبيدُ فِعاله، استعظموا قتاله، وأهالَهم إقباله، وداروا حوله من كل جانب، ومدّوا إليه ألسنةَ الرماح والقواضب. فلله دَرُّ محمد الحاكم، ممّا أَرْمَى عليهم من المصائب! ولقد مدَدْ على الأرض سَوْدانًا كأنّهم من جن سليمان، وكان له فى ذلك قَدْرٌ وشان، وذكرٌ فى سائر البلدان؛ فقتل منهم أربعمائة وثلاثين إنسانًا، وطرحهم على الأرض عبرةً للعيان. قال الراوى: وكان علمُ الدين الوزير، حين رأى الحاكم يقاتل هذا القتال العظيم وحده، ولا أحد من العساكر معه، صاح بالجنود: أنجدوه! قال: فعند ذلك، حملت العساكر كأنّها البحر الزاخر، وتبعتهم الأُعْوام كأنّها قطع الغمام. فلما رأت العبيدُ والعربُ هذا البلاء يأتيهم من كل جانب، ولَّوُا الأدبار، واركنوا إلى الهرب والفرار، فساق الحاكم خلفهم، وهو يشحَتُهم، حتى أمسك مائةً وثمانين فارسًا. فصار الحاكم يقول للأعوام: هذه غُرَماؤكم؛ كَتِّفُوهُم وشَلِّحُوهُم. فصاروا يكتّفونهم ويشلّحونهم ويلقونهم على الأرض. قال الراوى: ورَدَّ الحاكمُ إلى الناس ما كان أُخِذ منهم، وزادهم قماشًا فوق قماشهم، وعدّةً وخيلًا. ثم قال الراوى: وأمر أن يركب القتلى ومن لم يُقتل، كلُّ واحد منهم على جَمَل وكان الناس قد أطلقوا ألسنتهم له بالدعاء، ونظروا إلى ذلك الحال، وما سال من دماء الفرسان. ولمّا وصلوا إلى منازلهم، وغيّر الحاكمُ أثوابه، وبات تلك الليلة والخلق جميعًا متعجبين مما رأوا من شجاعته وكرمه. قال الراوى: فلمّا كان ثانى الأيام، خرج الحاكمُ فى موكبٍ عظيم، ونزل، وجلس فى دار العدل، فارتفعت إليه القصص، فأزال ما فيها من غُصَص. ثم نظر إلى الأمراء والوزراء والحجاب وأرباب الدولة، وقال لهم: يا عساكر مصر، اعلموا أنّى كنتُ كافلًا لابن السلطان الملك الظاهر، وقد تُوُفِّى وصار رميمًا داثرًا، وأنا وزير، لا سلطان. فولُّوا عليكم سلطانًا ترضونه، فأنا واحد منكم ولا أتكبّر عليكم. فنهض علمُ الدين الوزير، وقال: والله ما لها سواك، ولا يصلح لها غيرك، ولا يستحقّها إلا أنت. فقالت الأَكابر، ومن حضر من العساكر جميعهم: فوالله الملكُ الحقُّ المبين، إنّا لك طائعون وموافقون يا علم الدين. وكانوا جميعًا قد أعظموه وأهابوه، لما تحققوا شجاعته، وحسن أخلاقه، وبشاشته فى وجه الكبير منهم والصغير، فارتضوه جميعًا ولم يخالفه أحد. قال الراوى: ثم أمر بعد ذلك أن يُنصَب له سريرٌ من الذهب، بعد أن أحضر إلى بين يديه أرباب العلوم والأدب. فجلس على سرير الملك، وسمّى نفسه: «الحاكم بالله» فزعقت الشاوشية، وضجَّ الناس، وقالوا له: لا تَعْجَبْ؛ الملكُ لله الواحد القهّار. واختلف أصحاب التواريخ فى أسامى الملوك المتقدمين، ثم اتفقوا أن ثلاثة من الملوك سمُّوا بالمعنى، واثنين بالحاكم، وأربعة بالظاهر، وسوف يأتى كلٌّ منهم ذكره فى مكانه ومن تأمّل تاريخنا هذا إلى منتهاه، علمَ – من سائر التواريخ – أبناء الملوك والأنبياء، وأسماءهم، وألقابهم، وأعمار مدة ملكهم، وكل اسم فى مكانه. وبالله التوفيق. قال صاحب التاريخ: إنه لما انتصب الحاكم بأمر الله على التخت الذهب، جلس عليه، وأمر أن يُحضَر لديه أصحاب الصنايع، واستخدم من كل صنعة سبع صنايعيّة، وخلع عليهم. فلما انصرف أصحاب الصنايع، أمر بإحضار أرباب العلوم، وأرباب المعارف والفنون. فقال علم الدين – وكان شديد المحبة للحاكم، وكان إذا حضر فى المجلس زِيد فى إكرام الحاكم وتجميله – فقال له ذلك اليوم: قال الحاكم: يا علم الدين. قال: لبيك يا مولانا السلطان. قال: «مرادى منك أن تُحضِر لى جميع أرباب العلوم، صغيرها وكبيرها، غنيّها وفقيرها، وجاهلها وخبيرها، فى هذه الساعة». فقال علم الدين: «السمع والطاعة». ثم خرج الوزير، وأمر المنادِيَة أن ينادوا فى مصر: أن من كان من أرباب العلوم، من جدٍّ وهزل، فليحضر إلى قصر الملك. وكان الناس قد سمعوا بأمر الحاكم وإحسانه إلى سائر الناس، وكيف حكم على سائر أرباب الصنايع وأكرمهم؛ فأقبلوا من سائر الآفاق، حتى اجتمع ذلك اليوم فى القصر عالمٌ لا يعلم عددهم إلا الله. وأمر الوزير النُقَباء أن يرتبوهم كل طائفة بطائفتها. فلما ترتّبوا، كل طائفة فى مكانها، تقدم الوزير علم الدين وقال: «أعزّ الله مولانا السلطان، وزاده علوًّا ومكانًا، هذا الذى قد رسم به مولانا السلطان حاضرون فى هذا المكان. فمن تُرِيد أن يحضر بين يديك أولًا؟» فقال الحاكم: «يا علم الدين، اعلم أن العلوم أربعة: علمٌ ساطع، وعلمٌ رافع، وعلمٌ نافع، وعلمٌ واسع. فالعلم الساطع: علم الحقيقة، والعلم النافع: علم الطب، والعلم الرافع: علم الحكمة، والعلم الواسع: علم النجوم. وأنا أريد أن يحضر إلى علم الحقيقة، وهم الفقهاء». فتقدمت الطائفة بطائفتها، ولا يزال يقربهم حتى أجلسهم قرب السرير. فأمرهم أن يتذاكروا فى علم الحقيقة، والعلم الإلهى، وفى تفسير كتاب الله العزيز الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإيراد الأخبار وتحريك الآثار، ورواة الحديث، وأرباب المذاهب الأربعة، واختلافهم. فابتدأ واحدٌ من الفقهاء من أهل التفسير، وتعوّذ من الشيطان، وقال: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِى المُلْكَ مَن تَشَاءُ...﴾ ثم بدأ يفسرها حتى حيّر الناظرين، ثم تأخّر. فتقدم فقيهٌ نحوى، وتكلم فى أبيات ألفية ابن مالك، يشرح اللغة العربية، ويبيّن الفاعل والمفعول، والرافع والمرفوع. ثم تقدّم فقيهٌ مُقْرِئ للسبع روايات الشاطبيّة وبيّن القراءات، مثل نافع، وأبى عمرو، وحمزة، وغيرهم من القراء. ثم بدأ بذكر الإعاقات والمخارج، وذكر العبادات، ثم شرح كتاب الطهارة، والغسل، والزكاة، والصلاة، وصلاة الجنازة. وشرع الفقهاء يشرحون العلوم، ويبيّنون كل ظاهر ومضمر، وبحر علوم الزخارف، ويشرحون كل مُعجَم، ويوضحون ألفاظهم؛ حتى تعجب كل من حضر، فأنعم عليهم الحاكم بالخلع السنية، ورتّب لهم الرواتب، وأرضى أهل المذاهب، وأمرهم أن يسكنوا فى المدارس. فلما أصبح اللهُ بالصباح، وأضاء بنورِه ولاح، استأذن الأطباءُ على الحاكم؛ فأذن لهم. فلما مثّلوا بين يديه، وقربوا إليه، أمرهم أن يتكلّموا على صنايعهم، وأن يشرحوا قدّامه أعضاءَ الإنسان، وكم فيه من عِرق، ويذكروا الطبائع، والأخلاط المركَّبة فى البدن، والأمراض والأغراض، والعلاجات، والعروق المضِرّة من المآكل، ومن الأطعمة الحارّة والباردة والمعتدلة، والفواكه وجَزايِها، والرياحين وطباعها، ودخول الحمّام، ولحوم الحيوان والطير، والنوم والجماع. وتحدّثوا على الفصول الأربعة: الشتاء، والصيف، والخريف، والربيع، وعلى اختلاف الأهوية، وذكروا مَن سَلَف من الأطباء مثل: أرسطوطاليس، وقوليس، وأَرْباسوس، وأفلاطون، وروفيس، ويحيى، وإسحاق، وجالينوس، وبقراط، وعيسى عليهم السلام. ونسبوا إليهم الفضائل، وأوردوا عنهم الرسائل، وأوضحوا الدلائل، حتى أبهروا كلَّ من حضر. ثم أذن لهم الحاكمُ بالانصراف. ثم استأذن الجرايحيةُ والعشّابة، فتكلّموا على أوجاع العين، والضرس، وحَفْرة الأسنان وتسويسها، وتغيّر ألوانها، وأوجاع الفم، والنزلات وما شاكل ذلك. وبحثوا بحثًا عظيمًا فى صنايعهم وشرحها، ولكن – يا سادة – الكلام يطول، وقد اختصرناه. فاستأذن بعدهم أهل الموسيقى فى علم الأنغام. فتحدثوا عن اثنى عشر نَغْمًا، وأصلها: السيكاه، والدوكاه، والبنجكاه. وتحدثوا عن طابع الأنغام وأثرها فى الإنسان: منها المنوّم، والمطرب، والمبكى، والمحزن؛ كالرهّاوى، والعراقى، والأصفهان، والزُروكند، والعشّاق، والنوى، والحسينى. فأعجبوا الحاكم فخلع عليهم وأحسن إليهم. ثم مثّل الأدباء والشعراء، وحكوا له من سائر الصنوف: القصيد، والشعر، والزجل، والمواليا، والدوبيت، والموشح. وكان فيهم أديبٌ ظريف، فصيح اللسان، عليه هيبة ووقار، يقال له: الأمير جمال الدين الفصيح، وكان هزليًّا جدّيًّا، حاضرًا فى ديوان الحاكم. فلما انتهت النوبة إليه، أشار إليه الحاكم أن يتكلم، فارتفعت منزلته؛ لأنه وزن لفظه بميزان العقلاء، فوجد الحاكم كلامه فحلًا مغرِمًا، وشعره قاعدًا صحيحًا لا زَحْف فيه ولا اعوجاج. فعلم الحاكم أنه شاطر فى علم العروض، وفى التصنيف والأدب. فقال له الحاكم: «أيها الرجل الأديب، صلح الله بدنك، ما أحسن كلامك وما أظرف نظامك! فأشفِ سماعَنا بشىء من ألفاظك». فقال جمال الدين: «أيها الملك، فليعلم مولانا الحاكم أن للملوك مصنّفات شتى، من هزلٍ وجد، وأشعار وقصايد، وتصانيف هزلية، ومقامات جدّية. والمملوك خائف من سوء الأدب فى اللفظ بين يدى السلطان». فقال الحاكم: «قُل ما شئت، فلا اعتراض عليك فيما تقول من جدٍّ وهزل؛ فإنى والله أحبُّ صاحب الفضيلة». فقام جمال الدين فقبّل الأرض وقال: «أعزّ الله مولانا السلطان وزاده رفعة وشأنًا. إن من جملة تصانيف الملوك مقامة، وقد صنّفتها فى القَمَنْد صفاته وحركاته، وأرجو من المولى أن يسمعها، وأظنّ أنه لم يصنّف أحدٌ مثلها». فقال الحاكم: «قُل ما شئت، هزلًا أو جدًّا». ... وعند باب المقامة البديعة التى همّ جمال الدين بإنشادها، يتوقّف السرد كأنّنا أمام كنز لم يُفتح. وما بعد هذا المشهد أوسع من أن يُروى هنا... فحديثُ ما قاله جمال الدين، وما جرى فى مجلس الحاكم، وما تخبّئه النسخ الغائبة، نؤجّله إلى مرّةٍ أخرى.