هذه رواية مهمة للغاية، ومُحكمة الصنع، تقول أشياء خطيرة عن البشر والوطن والأماكن، تمنح البطولة لنساء أسرة قبطية، لكنها تتحدَّث أيضا عما فعله وما لم يفعله الرجال، بل إن بطلها الحقيقى هو الزمن، حكايتنا عن الناس فى الزمان والمكان، خيوطها تمتد بين القاهرة ودبى بين عامى 1973 (عام الحرب المنتصرة) و2011 (سنة الثورة المصرية)، ربما يصح أيضا أن نعتبرها رواية أجيال عصرية، تجعل العمر يهون إلا لحظة، وتمزج ببراعة بين الأحلام الصغيرة الخاصة، والأحلام الضخمة التى تغيّر حياة الملايين. رواية «نساء.. القاهرة-دبى» لناصر عراق، الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية فى 670 صفحة، تتمتع من حيث الشكل بتصميم سردى رائع وقوى. مستويان من زمن الحكى: فى الحاضر نعيش خمسة أيام مفعمة بالتوتر مع أسرة القبطية سوزان صبحى، كبيرة مهندسى الديكور فى تليفزيون دبى، سقطت مصابة بأزمة قلبية أفضت إلى غيبوبة، نقلوها إلى المستشفى ترافقها ابنتها مادلين، ابنها فيليب يتابع حالة أمه، ويحاول إنقاذ والده الذى اتهم بقتل عامل هندى خطأ، فى أثناء قيادة الأب لسيارته تحت تأثير الخمور، خمسة أيام من عام 2011 فى خلفيتها توابع ثورة يناير، وتحديدا أحداث محمد محمود، السرد فى الحاضر ذاتى من خلال صوت مادلين، وصوت فيليب، ولكنه سرعان ما يتقاطع فى كل مرة مع سرد الراوى العليم، الذى يفرش الحكاية على مساحة واسعة جدا تبدأ من عام 1973، العودة إلى الماضى تعيد بسط الزمن المكثف فى لحظات سوزان الحرجة، وتقول لنا إننا لن نفهم حكاية سوزان وأسرتها ومحنتها إلا من خلال معرفة حكاية وطنها وحياتها فى طفولتها وشبابها، لن نفهم ما حدث فى دبى من أزمات إلا إذا فهمنا الخيبات التى حدثت فى القاهرة طوال السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، هى إذن سياحة فى داخل شخصيات مأزومة جاؤوا من وطن مأزوم. اختيار أسرة قبطية أتاح أن نرى التغيرات من زاويتها الخطيرة، مجتمع التسامح أصبح مجتمع التمييز، وإعطاء الصدارة للمرأة منح الرواية فرصة رائعة لرصد تغير أحوال النساء من المشاركة إلى التهميش فى زمن الأنثى/العورة، كما منح ناصر عراق القدرة على أن يملأ روايته، الحافلة بالتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكبرى، مذاقا إنسانيا حميميا برصد عواطف النساء ورغباتهن وأحلامهن بالحرية، لعبة السرد اختزلت ما يناهز أربعين عاما من عمر الوطن فى امرأة تتحدى الغيبوبة فى خمسة أيام، وأعطت حرية مذهلة فى الحركة العابرة للزمان والمكان والأجيال، لم تعد انقلابات عصرى السادات ومبارك مجرد خلفيات، ولكنها صارت مثل عوامل التعرية التى أعادت نحت البشر من جديد، سوزان صنعتها شخصيات أخرى، وأحداث كبرى: الجد جرجس أستاذ اللغة العربية وتلميذ طه حسين، الأم إنصاف مدرّسة التاريخ، الوالد الشهيد صبحى، العائلة الصغيرة فى شبرا: الأخ نبيل والأخت إنجيل، المنظمة السرية الشيوعية التى انضمت إليها سوزان فى أثناء دراستها فى كلية الفنون الجميلة، علاقتها مع الشاعر يحيى والتافه أمير والانتهازى رمزى، ومع محمد وجدى الشيوعى المخلص، وزكريا عبد المحسن الذى اختفى إثر انتخابات مزيفة، ومع زوجها المدلل فؤاد مسيحة، هناك أيضا رفاق الجد الذين لا يفارقون مقهى نور الصباح الذى سيصبح لاحقا محلا للأحذية، شهود عصرهم على طريقة روايات محفوظ، من غربة فى الوطن إلى غربة خارج الوطن، ملابس المحجبات، انسحاق الطبقة الوسطى، وكيلو اللحم الذى أصبح ارتفاع سعره مؤشرا لانخفاض قيمة البشر، العائدون من أفغانستان، الحصاد المرير لمجتمع الفقر والجهل والتعصب، وتجار المخدرات فى مجلس الشعب. نسمة وحيدة فى حياة سوزان، طبيب القلب عزت أبو النيل، رجل عمرها الذى سيسقط فى غيبوبة برصاصات فى أحداث محمد محمود، هذا الجيل تطارده الخيبات، يختلس السعادة اختلاسا، بين غيبوية سوزان وعزت، محاولات للإفاقة تتوازى مع محاولات الوطن لكى يستفيق بعد ثورة يناير، ولكن النهاية مفتوحة، كل شىء معلّق فى رقبة الأبطال، كيفما تختارون تصبحون: وداد (صديقة إنصاف) تحولت من مدرّسة تاريخ إلى تاجرة ملابس للمحجبات، وسيد ابن البقال صار إرهابيا، وفؤاد اختار المتعة الجسدية، وجرجس الجد مات وهو يضحك. لم يخدش هذا البناء الفذ للرواية إلا أمران: اضطراب فى ضبط تاريخ مجرزة السياح فى الأقصر فى التسعينيات، التى أصبحت فى الرواية فى منتصف الثمانينيات، وهو سهو مزعج للغاية، واللغة الرصينة التى تسبب الالتزام الصارم بها فى أن نقرأ صوتا واحدا رغم تعدد الأصوات، لست بالتأكيد ضد استخدام الفصحى، ولكنى ضد أن تصبح عائقا فى سبيل الأداء الفنى سواء على مستوى السرد أو الحوار، ما جعلنى أتذكر أحيانا تلك الجمل القادمة رأسا من موضوعات التعبير والإنشاء. ناصر عراق روائى ناضج وشديد الوعى، أتمنى فقط أن ينجح فى توظيف الفصحى فنيا بشكل أفضل. «نساء.. القاهرة-دبى» رواية عن تمرد الفرد والمجتمع، عن غيبوبة الأفراد والأوطان، عن الحب كطوق نجاة، عن الجيل الذى سُحقت أحلامه، وطارده الماضى فى كل مكان، رواية كبيرة بحجم أوجاع مصر وأهلها.