قبل أن يرحل الكاتب والصحفى والأديب والمفكر إسماعيل مظهر فى فبراير 1962، ترك لنا تراثا هائلا من الفكر والنقد والدراسات النوعية، وكان أحد المفكرين القلائل الذين تركوا علامات مضيئة وحادة فى القرن العشرين، ولا تنحصر جهود مظهر فى ال35 كتابا التى جمعها ونشرها، ولكن تتسع جهوده إلى مئات الدراسات والمقالات التى كتبها فى صحف ومجلات عديدة، منذ عشرينيات القرن الماضى حتى رحيله، أى أنه ظل يكتب ويؤلف ويشغل الدنيا لمدة تزيد على أربعين عاما، ورغم أنه كان يكتب فى الأدب والفلسفة وكل العلوم الاجتماعية فإنه أثرى المكتبة العلمية بكتب وأبحاث ومعاجم، إذ أنجز معجما ضخما عن الحيتان، وكان صاحب أول ترجمة كاملة لكتاب أصل الأنواع لدارون، وكذلك القاموس الإنجليزى للعلوم الطبيعية، وكانت مجلته «العصور»، التى أنشأها عام 1928 حافلة بالدراسات العلمية، إلى جانب الدراسات الفلسفية والأدبية والتاريخية عموما، وظل هذا الدأب نحو الكتابة العلمية يرافقه حتى أخريات حياته، وقد كان يكتب مقالا كل جمعة فى الصفحة الأخيرة من جريدة «الأخبار»، وفى يوم 18 أغسطس عام 1961 نقرأ مقالا تحت عنوان «العلم ومشكلات الغذاء فى العالم»، وتحدث مظهر عن نقائض العلم، ومصادر الغذاء، وطاقات الطبيعة، وثروات الحيوان آنذاك والمستقبلية، وكذلك الإرشادات التى يمكن أن يقتضى بها للعلم لحماية الثروة الغذائية على مستوى العالم، وكان مظهر يقرأ المشكلة من زوايا كونية محضة، ولذلك كان يرى أن يتضافر العالم أجمع أمام المشكلات التى تواجه أى بقعة منه فى الكرة الأرضية، ورغم هذا البعد الكونى والانسانى والعالمى الذى كان مظهر ينطلق منه دوما فى أبحاثه ودراساته فإنه كانت عينه دوما على الواقع العربى، والمجتمع المصرى، فكتب فى مستهل حياته كتابا فى غاية الأهمية تحت عنوان «تاريخ الفكر العربى»، أى بعد صدور كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ على عبد الرازق، وكتاب «فى الشعر الجاهلى» للدكتور طه حسين، والكتابان كما هو معلوم قد أثارا حوارا فكريا وسياسيا ومجتمعيا واسعا، وتبعا لهذا الحوار كانت هناك إجراءات حادة اتخذت تجاه على عبد الرازق وطه حسين، كعقاب لهما على ما أثاراه من تمرد وثورة على أفكار وتقاليد المجتمع فى تلك المرحلة، وأعتقد أن كتاب إسماعيل مظهر جاء فى سياق تدفق دماء جديدة فى شرايين وأوردة الثقافة العربية، إذ تعرض مظهر فى هذا الكتاب إلى أفكار كانت جديدة على الواقع الفكرى والثقافى فى ذلك الوقت، ولم يكن سوى الدكتور طه حسين قد تناولها فى كتاباته عموما، وكتابه المثير «فى الشعر الجاهلى»، مثل تاريخ الفكر العربى فى نشوئه وتطوره بالترجمة والنقل عن الحضارة الأوروبية، ثم السبل والطرق التى انتقل بها الفكر اليونانى إلى الثقافة والفكر العربيين، ومن المعروف أن الدكتور طه حسين قد عاد وناقش هذه الفكرة بتوسع فى كتابه المهم «مستقبل الثقافة فى مصر»، ومن المعروف أن هذا الكتاب قد جلب على طه حسين انتقادات كثيرة، لانحيازه إلى الفكر الغربى، واعتباره أن الثقافة المصرية تنتمى إلى ثقافات البحر المتوسط، وكانت تنويهات مظهر فى كتابه المبكر هذا لافتة للدكتور طه حسين فى ما بعد، ويعيد مظهر سمات التقدم فى الثقافة العربية إلى الترجمات التى حدثت فى العصور الإسلامية الأولى، إذ يقول مظهر: «كان العصر الواقع بين المجادلات الدينية فى الكنيسة المسيحية وظهور الرغبة عند المسلمين فى درس الفلسفة، عصر ترجمة وإنتاج ذهنى، علق خلاله على كثير من مسائل الفلسفة واستغرقت فيه طائفة كبيرة من أفكار اليونان ومذاهبهم، ولم يعن الناقلون فى ذلك العصر بالفلسفة وحدها، بل عمدوا إلى الطب وعلم الكيمياء والفلك، فترجموا فى تلك العلوم كثيرا»، ويستطرد مظهر فى جميع دراسات هذا الكتاب فى اكتشاف العلاقة العميقة والأصيلة بين الثقافات العربية والثقافة اليونانية عموما، وامتزاج الثقافتين بشكل كبير، وبالطبع راحت مؤلفات مظهر الفكرية والأدبية والعلمية تضرب فى ذلك الاتجاه، وكانت مجلته «المعرفة» تضم أبحاثا كثيرة تتحدث فى هذه المضامين، وكذلك ترأس تحرير مجلة «المقتطف» لفترة ما فى الأربعينيات، وكان قد اشتبك مع سلامة موسى فى حوار طويل حول حرية الرأى، رغم أن الاثنين كانا تلميذين مخلصين لأستاذهما الدكتور يعقوب صروف، وكان مظهر قد أهداه كتابه «فى الفكر العربى»، قائلا: «إلى أستاذى وصديقى الدكتور يعقوب صروف، إحياء لذكرى الصداقة واعترافا بما له عندى من الدين الأدبى الذى إن عجزت أن أؤديه إليه حيا، فلا أقل من أن أحيى اليوم ذكراه وهو فى عالم الأرواح»، ومن خلال الدكتور يعقوب صروف تعلم الكاتبان والمفكران الحرّان مظهر وسلامة موسى كل آليات الفكر الحديث، وانطلق كل واحد منهما لإنتاج ما أنتجاه، وقد يكون حظ سلامة موسى أوفر كثيرا من حظ إسماعيل مظهر، فى مسألة الرواج وإعادة نشر الإنتاج الفكرى، حيث إن سلامة موسى ترك دارا للنشر، وابنا اعتنى بإعادة نشر كتبه فى هذه الدار، أما كتب إسماعيل مظهر فلم تجد سوى حماس شقيقه جلال مظهر بعد رحيله بقليل، وأصدر بعض المؤلفات الفكرية والأدبية، ثم انقطع حبل الحماس، لتبقى مؤلفات ودراسات وبحوث إسماعيل مظهر غائرة فى طيّات الماضى، دون أن ينفض الغبار عنها أحد، وعلمت أن الدكتور أحمد الهوارى قد بدأ بالفعل فى جمع تراث إسماعيل مظهر، وأعلم جيدا دأب وجديّة الدكتور الهوارى، ولكن هذا الجهد الذى يبذله ترعاه مؤسسة غير مصرية، وهذا ما يثير غصة فى النفس، فإلى متى يغيب اهتمامنا بتراثنا، حتى ترعاه وتتبناه مؤسسات ليست مصرية؟ هذا سؤال أوجهه إلى الدكتور والناقد الكبير جابر عصفور، ما دام أنه يقف على رأس المؤسسات الثقافية المصرية.