في ذكري وفاته الخمسين نتذكره إسماعيل مظهر ينتقد افتقار أبحاث طه حسين للأسلوب العلمي.. ويعيب علي سلامة موسي استخدامه للعامية جمع في تكوينه الثقافي واهتماماته بين العلم والأدب.. فكان خوضه في الفكر العلمي أسبق من اتجاهه الأدبي. علي الرغم من أن التيارات الرجعية اعتبرت الجهود الخاصة بنظرية التطور بمثابة خروج علي الدين والعقيدة.. فاتهموا إسماعيل مظهر بالكفر والإلحاد لكنه لم يتراجع خطوة واحدة. مظهر مثل معاصره سلامة موسي يصف الأدب القديم الذي وضع في عصور الملوك والإقطاع بأنه أدب ملوك وأدب إقطاع. تدين النهضة المصرية الحديثة التي تألقت في القرن العشرين لعدد كبير من الكتاب والنقاد والشعراء والباحثين والمؤرخين والمحققين والمترجمين، قدموا إنتاجهم في المجالات الثقافية المختلفة في وسط تاريخي بالغ الصعوبة يواجه تحديات الخلافة العثمانية التي سقطت سيادتها في مصر سنة 1924، والاستعمار الإنجليزي المناهض للحرية الذي تخلص منه الوطن في 1954 . وإذا كنا ننتمي اليوم إلي عصر المعلومات فلا يزال كثير من إنتاج هذه الحقبة، الذي نشر في الكتب والدوريات الصحفية أو أذيع في الندوات والمحاضرات العامة ومعاهد التدريس، محتفظا بنبضه، صالحا لإعادة طبعه وتقييمه علي نحو من الأنحاء خاصة إذا لم يكن مودعا في دار الكتب، وفي حكم المفقود. وكما نذكر في مجال الأدب أسماء «طه حسين» و«العقاد» و«المازني» و«هيكل» و«توفيق الحكيم»، ففي مجال الثقافة العلمية أقطاب من ذات السبط لا يقلون عنهم في المكانة أو في الاختلاف مع المجتمع وقد يتفوقون عليهم في الوعي المدني والتأثير وغاية النهضة والترقي وإن لم تتحقق لهم الشهرة التي تتكافأ مع عطائهم التنويري، أو تقام لهم التماثيل في الميادين. ولم تكن القري الصغيرة والكفور في بلادنا أقل من المدن والعواصم في إنجاب الأعلام. مظهر بين الأدب والعلم من هؤلاء نقدم في ذكري وفاته الخمسين إسماعيل مظهر (1891-1962) صاحب الكتب والمقالات والترجمات والمعاجم التي لا يستطيع مطلع علي تاريخنا الثقافي الحديث أن يتجاهلها أو يهون من شأنها أو من شأن ما تتضمنه من بحث عن الحقيقة في جميع الأصعدة. وإسماعيل مظهر يجمع في تكوينه الثقافي واهتماماته بين الأدب والعلم، أو بين العلم والأدب إن أردنا الدقة لأن خوضه في الفكر العلمي كان أسبق من اتجاهه الأدبي وهو مترجم متمكن يعتبر الترجمة ملكة أو موهبة يدرك بها المترجم حقيقة النص، وله ما يزيد علي ثلاثين كتابا أشهرها وأكثرها ارتباطا باسمه ترجمته لكتاب «أصل الأنواع» لداروين الذي صدر في 1859 وترجمه إسماعيل مظهر في 1918 في سن السابعة والعشرين، وكان بمثابة فتح معرفي جديد، وحدث خطير في الثقافة العربية، بمثل ما كان فتحا جديدا للذهن البشري، يطرح مفاهيم جديدة في مجالات دراسة علوم الإنسان والحيوان والطبيعة تقوم علي التعليل المبني علي العلم، ويرجح فيها أن الكائنات المختلفة يمكن أن تكون من أصل واحد، وفق نظرية «النشوء والارتقاء» التي تؤمن بالنمو الذاتي للكائنات، وبالأصل الحيواني للإنسان الذي حلت فيه الروح المقدسة، هذه الروح التي اكتسب بها الإنسان العزة والكرامة، كما تؤمن بقدم الأرض ومعناه أن ليس للعالم بداية، وبأن لا وجود لشيء من لا شيء، وبأن الطبيعة تقوم علي الحركة لا علي السكون وهذه الحركة شاهد التطور الذي فتح الآفاق أمام العلم والمعرفة، وأدت أو كان ينبغي أن تؤدي إلي اختفاء الخرافة التي تنسب الظواهر إلي قوي غيبية تفتقد البرهان ولا يستطيع كشف سرها إلا الشاعر أو العراف. ومع أن التيارات الرجعية والمحافظة اعتبرت هذه الجهود الخاصة بنظرية التطور بمثابة خروج علي الدين والعقيدة واتهم إسماعيل مظهر بالكفر والإلحاد ، فلم يتراجع خطوة واحدة، ووصف من ينالون منه بأنهم قطعان الضلال، وظل مؤمنا بالعقل الذي كان همه الأول وقضيته التي كرس حياته لها، وبذل من أجلها كل ما يملك من ثروة وضياع، مؤكدا في كتاباته بأن عقل الإنسان ونفسه ثمرة حياته الاجتماعية، وأن العادات والأخلاق منهج في السلوك، يتوقف علي هذا العقل لا علي العقيدة الدينية، حتي تصبح من الصفات المتوارثة. يجد القارئ توضيحا لهذا كله في كتاب إسماعيل مظهر «ملقي السبيل في النشوء والارتقاء» الذي صدر في 1923 . وفي تقديره أن عجز الإنسان عن الإدراك الموضوعي يدفع إلي التفكير والتأمل، وهما مدخل الفلسفة. وعن مبادئه السياسية فإنه مع عدم التمييز بين البشر، ومع الحكم الغيابي، ومع الديمقراطية والحرية والعدالة والتسامح. لهذا كان إسماعيل مظهر مع لويس عوض وعبدالحميد يونس، عند تأسيس جريدة «الجمهورية»في 1953، أحد المشرفين علي قسمها الثقافي الذي رفع علي صفحاتها شعار «الأدب في سبيل الحياة». كما يرتبط إسماعيل مظهر أيضا بقاموس النهضة«إنجليزي - عربي» الذي يعد أفضل القواميس التي صدرت في هذا التاريخ. ولأن الحضارة قبل أن تتجسد في الماديات تنشأ أولا في اللغة، مثلما توضع النظريات بناء علي ما تحققه التجارب، فإن الأدب عند إسماعيل مظهر وهو في تراثنا العربي مرآة العقل، مقترن بالحضارة أي بالثقافة والمدنية يزدهر بازدهارها ويموت بموتها، ذلك أن مصدرهما واحد وهو الحياة الخاصة بالفرد والمجتمع . فإذا كانت الحياة تشكل البيئة، فإن البيئة بدورها تشكل الإنتاج الأدبي والعلمي في ظل الحركة والحرية. وعلي الأديب والعالم أن يكون قادرا علي كشف العالم، وواعيا بكل تغير وتحول في البيئة، حتي يتمكن من الإنتاج وفق هذا التغير والتحول. أدب إقطاع وإسماعيل مظهر مثل معاصره سلامة موسي يصف الأدب القديم الذي وضع في عصور الملوك والإقطاع بأنه أدب ملوك وأدب إقطاع. ورغم ما أثاره هذا الرأي من رفض المدافعين عن التراث وعن مذهب الفن للفن، فلم يعدل عنه إسماعيل مظهر، مثلما لم يعدل عنه سلامة موسي في كل المعارك التي احتدمت حولهما، ثقة من كل منهما بصحة رؤيته المبنية علي اطلاع واسع في تاريخ الثقافات الإنسانية في الشرق والغرب ورغم أن كل المجددين في ثقافتنا العربية الحديثة لا ينكرون الماضي إيمانا منهم بأن من ليس له ماض ليس له حاضر أو مستقبل فإن إسماعيل مظهر يرفض أن يكون الماضي هاديا أو نبراسا ويراه عقالا وصفحة بائدة يجب ألا يكون لها تأثير علي عقولنا، وكان يأمل أن يجد تعضيدا لموقفه ولو من عدد ضئيل من المثقفين. ذلك أن كل من تعمق في التراث القومي، سواء في أدبه أو علمه، يعرف أنه بكل المقاييس تراث إنساني، ولم تكن مجالاته العلمية، وفرق العمل فيه منذ العصر الأموي، أقل تأثيرا في صنع النهضة العربية من المجالات الأدبية والفكرية وليس هناك في تاريخنا الحديث من طلب - مثل إسماعيل مظهر - نفي التراث أو إهماله غير«شبلي شميل» في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين وهي صيحة لم يكترث لها أحد. ويعد إسماعيل مظهر الأدب السطحي والحجر علي حرية الرأي والتعبير، من اشكال التراجع الحضاري الذي ينذر بأفول الإبداع. وعلي نحو ما يحتاج الاقتصاد دائما إلي من يحميه ويوجهه، كذلك يتعين علي رجال الإصلاح التدخل لتقويم الأدب والفكر، إذا غلبت عليه النزعة التجارية أو السطحية، وعجز عن إدراك الحقائق، أو انحرف نحو الطائفية وافتقد الأسلوب العلمي الذي يقوم علي الضبط والتحديد. وكان إسماعيل مظهر يعتبر أن أكثر ما يتطلع إليه الكاتب أن يحبب القراء في الأسماء التي يكتب عنها، حتي يجعلهم يتمنون أن يقرأوا كل ما خطته أقلامهم. ولإسماعيل مظهر آراء جريئة في الكتاب المعاصرين، عبر عنها في مجلة «العصور» التي أصدرها في 1927 إلي 1930، وفي غيرها من الدوريات يفتقد معظمها الدليل الدامغ علي صحتها، مثل رأيه في كتاب «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبدالرازق الذي ينفي فيه إسماعيل مظهر ما يقوله المؤلف في كتابه من أن الخلافة ليست من نظام الحكم الإسلامي في شيء دون أن يمتلك الحجة. نذكر أيضا من هذه الآراء المرسلة ما قاله عن ثلاثة من صناع النهضة الفكرية الحديثة، وأصحاب الأفضال الجمة علي الثقافة والمثقفين:العقاد وطه حسين وسلامة موسي. عن العقاد يقول إسماعيل مظهر إنه ناقل للمعرفة، وليس منتجا لها قرأ وفهم ولخص ما قرأ وفهم معناه أنه موصل جيد للمعارف إلي القراء العرب، لا أكثر وأن أقصي ما يقدمه رتق المفاهيم المنفصلة، لا وصل الأجزاء المختلفة والحلقات المتفرقة. وإسماعيل مظهر هو الذي صك مصطلح «المادية الجدلية» لمذهب كارل ماركس «ديالكتيك رياليزم» الذي شاع في كل الكتابات العربية منذ الأربعينات، مخالفا بذلك مصطلح الثنائية الذي وضعه العقاد ظنا منه أن المادة تتكون من قوتين وليس من قوة واحدة متحولة بفعل ما تنطوي عليه من عوامل متعارضة. في نقد طه حسين وسلامة موسي هناك أيضا ممن نقدهم إسماعيل مظهر طه حسين في كتابه «في الشعر الجاهلي» الذي نقل فيه فكرة الشك في الشعر الجاهلي عن بحث للمستشرق«مارجوليوث» ذكر فيه أن هذا الشعر منحول ومزور. ويأخذ إسماعيل مظهر علي طه حسين أيضا افتقاد أبحاثه للأسلوب العلمي، وطول مقدمات مقالاته التي تستغرق أكثر من النصف قبل أن يتعرض للموضوع، كما أن مادة أدبه ليست من خلقه وإبداعه، وإنما هي مقتطفات من كتابات الذين سبقوه وتثقف بأدبهم. ولأن هذا المقال عن إسماعيل مظهر لا يحتمل دفاعا عن طه حسين، فسأكتفي في بضعة أسطر بالإشارة إلي ما أجمع عليه الكتاب والنقاد في مصر والوطن العربي والعالم من أن الكثير من أعمال هذا المفكر المتحرر غير مسبوقة من أحد في الثقافة العربية، وأن من أتي بعده من المثقفين والمختلفين معه استفادوا منه، أو كانوا امتدادا له لعمق تأثيره في الحياة الأدبية والفنية. وحياة طه حسين وكتبه «في الشعر الجاهلي» و«ذكري أبي العلاء» و«الأيام» تثبت هذا الحكم وتدحض غض إسماعيل مظهر من قدر هذا الرائد العظيم الذي تعلقت به قلوب وعقول أجيال كاملة من المثقفين في كل مكان، كانوا يشعرون بالفخر لأنهم عاشوا في عصر طه حسين، وقرأوا له. أما سلامة موسي الذي كان من المفترض أن يحابيه إسماعيل مظهر ، فأخذ عليه نفيه للوجود الموضوعي للمادة، وأسلوبه «العامي» الذي يخرج علي الأساليب العربية، التي كان سلامة موسي يعتبرها لغة قديمة بالية، لا تعبر عن الواقع والعصر، وحاول أن يجددها بلغة محكمة سهلة العبارة، نجح في أدائها علي خير وجه، يؤدي بها المعني المطلوب بكل دقة بلا تنميق أو زخارف تثقلها، أو تقعر. ومثل هذا الحرص علي اللغة من جانب إسماعيل مظهر يرجع إلي أن معايشته للتراث العربي كانت عميقة مثل معايشته للتراث الأوروبي، رغم ما شاب أسلوبه من بعض الأخطاء النحوية التي وقع فيها غالبا نتيجة العجلة في الكتابة وليس الجهل باللغة.