عدت إلى بريطانيا مطلع هذا الشهر بعد غيبة أقل من ثلاثة أشهر عنها لأجد أنها قد غيرت اهتماماتها من الانشغال بالعيد المئوى للحرب العالمية الأولى، إلى الانشغال بما يدعونه إيزيس وتونى بلير، وبالعلاقة الحميمية وغير الصحية بين الإعلام والسياسة. فبعد أن سيطر الاهتمام بمئوية الحرب العالمية الأولى على الشهور الأربعة الأولى من هذا العام، فبريطانيا، كغيرها من الثقافات الحية لا تتقدم إلا بقدر حرصها على ذاكرتها التاريخية، والاستفادة من دروسها. وقد تركت لندن فى شهر أبريل الماضى، وهى تعج بمسرحيات تتناول الحرب العالمية الأولى، وبمعارض تشكيلية وتاريخية كثيرة عنها، وبعدد من الكتب الجديدة التى تعيد التأريخ لها. ولما عدت لها فى مطلع هذا الشهر وجدت أن أغلب عناوين الصحف التى تتناول عالمنا العربى تنطوى على كلمة إيزيس «Isis»، وهو الهجاء الصحيح لاسم الربة المصرية القديمة، التى تمثل أرقى قيم الأمومة والعدل والوفاء للزوج القتيل. لكن المعنى الجديد والردىء، الذى اكتسبته الكلمة الآن هو «داعش». لأن هذه الحروف الأربعة التى تكون اسم إيزيس هى أيضا اختصار اسم تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام Islamic State in Iraq and Syria. لكن اختصارها العربى داعش لا يمت بأى صلة إلى الاختصار الإنجليزى إيزيس. بل هو النقيض الكامل لكل ما تمثله إيزيس من قيم راقية ونبيلة. لكن الجسر الذى ربط بين إيزيس المكلومة وداعش هو تونى بلير، فما أن حققت داعش أهم انتصاراتها المتمثل فى إزالتها للحدود القديمة بين سورياوالعراق، واستيلائها على الموصل، بما فى ذلك بنوكها التى كان فيها نصف مليار دولار، من جيش سياسات بريمر الاستعمارية والطائفية المقيتة. حتى هب تونى بلير ونشر على القراء مقالا ركيكا يؤكد فيه أن تتقاعس أمريكاوبريطانيا عن غزو سوريا بعد العراق، أو حتى عن إسقاط نظام الأسد بعد الثورة السورية، لما حدث ما قامت به داعش. وهو المقال الذى جلب عليه سخط كثيرين من الساسة والصحفيين. فوصفه عمدة لندن، بوريس جونسون، وهو من المحافظين، بأنه قد أصيب بالجنون كلية. ليس فقط لحالة النكران التى تمنعه من الاعتراف بخطأ توريط بريطانيا بحرب العراق، لكن لعجزه عن إدراك أن داعش من نتائج هذه الحرب التى تفتقر لأى أساس قانونى أو أخلاقى. وهذا نفسه ما كرره، جون بريسكوت، نائبه حينما كان رئيسا للوزراء فى مقال آخر، وما ردده إيد ميليباند رئيس حزب العمال الحالى أيضا. لكن ما جعل المفارقة مأساوية، وأضاف إلى أحزان إيزيس المكلومة المزيد هو ما نشر عن أن هذا التونى بلير الذى يجمع زملاؤه وخصومه معا على وصفه بالخبل والجنون، قد طلب منه الرئيس المصرى الجديد عبد الفتاح السيسى أن يكون مستشارا اقتصاديا له. وهو الأمر الذى أكدته مؤسسة بلير للاستشارات ولم تنفه. والواقع أن الرأسمال السياسى الذى كونه تونى بلير، سرعان ما بدد بنفسه قسما كبيرا منه بتوريط بريطانيا فى حرب العراق، دون عائد منظور على بلده التى لعبت دور التابع لأمريكا فيها وخرجت منها خاوية الوفاض. ثم بدد جزءا آخر منه بعد اعتناقه الكاثولوكية عقب خروجه من الحكم، كاشفا عن شىء من ضيق أفقه الدينى، مما يخلق مشتركا بينه وبين زعيم داعش أبى بكر البغدادى. ثم جاءت المعلومات عن علاقته الحميمة بصاحب الإمبراطورية الإعلامية ميردوخ، وهو فى قمة السلطة، حيث قبل أن يكون عرابا لحفيد ميردوخ، أى الانضمام الرمزى إلى أسرته، مقابل ولاء جرائده له. ثم بدد ما بقى له منه بعدما حرص بعد فقدانه الحكم على استثمار رأسماله السياسى الضئيل ذاك لتحقيق أكبر عائد مادى، وللإثراء السريع بتلك الاستشارات البائسة التى يقدمها بثمن باهظ لمن يدفع، بمن فيهم بالطبع العقيد غير المأسوف عليه معمر القذافى الذى عمل مستشارا سياسيا له لقاء عدة ملايين. والغريب أن تونى بلير الذى تؤكد كل المقالات التى ردت على مقاله الردىء ذاك أنه فقد رأسماله السياسى كليه، وتحول إلى موضوع للسخرية فى بلده، لا يزال يتمتع بشىء من رأس المال المغشوش فى عالمنا العربى، حيث عينته الرباعية الدولية الموكل لها حل القضية الفلسطينية مستشارا لها. فأدت استشاراته التى استأثرت بقسم لا بأس به من المعونات، لمزيد من تفاقم القضية وتدهورها. وها هى الأخبار تترى عن أن مصر المكلومة تطلب هى الأخرى استشاراته البائسة فى الشأن الاقتصادى، ولدى مصر خبراء اقتصاديون أثبتوا كفاءتهم فى أكبر المحافل الدولية من طراز محمود عبد الفضيل ومحمد العريان وسمير رضوان وجلال أمين. والواقع أن آخر ما يمكن أن يطلبه عاقل من بلير هو المشورة فى الشأن الاقتصادى. لأنه أمضى كل سنوات حكمه بعيدا عنه، ولا دخل له به. فقد كان المسؤول عن الاقتصاد طوال حكومات العمال التى رأسها هو الشخصية العمالية القوية ووزير المالية جوردن براون، الذى خلف بلير فى رئاسة الحزب والحكومة معا. وكان مهندس السياسات الاقتصادية لكل سنوات العمال فى الحكم. ولو أرادت مصر أى استشارات اقتصادية يمكن التعويل عليها، ولا تتوفر لدى الكثير من أبنائها النجباء، لكان عليها أن تطلبها من براون الذى على العكس من بلير، ترفع عن استخدام رأسماله السياسى، ولديه منه أكثر من بلير، فى الثراء السريع والاستشارات ذات الطبيعة الأمريكية الخرقاء. لكن مؤسسة بلير للاستشارات، والشهيرة بما يعرف هنا بالتسويق العدوانى Aggressive Marketing نجحت للأسف الشديد فى تسويق بلير لإيزيس المكلومة.