فى اليوم الأول من صدورها حققت مذكرات رئيس الوزراء البريطانى الأسبق تونى بلير مبيعات غير مسبوقة مقارنة بكتب مماثلة. وبالطبع فإن هذا لا يعكس شعبية بلير- التى هوت إلى الحضيض بسبب انسياقه الأعمى وراء الرئيس الأمريكى السابق بوش الابن- إنما هو نتيجة طبيعية للضجة الواسعة النطاق التى أثارتها هذه المذكرات فى الأوساط السياسية والثقافية قبل صدورها بمدة طويلة. والمذكرات التى صدرت فى الأول من الشهر الجارى تحت عنوان «رحلة» ونشرت الصحف البريطانية مقتطفات منها تأتى فى أكثر من 700 صفحة قام بلير بكتابتها بنفسه حيث يروى تجربته فى الفترة بين عامى 1997 و2007 والتى قضاها فى رئاسة الوزراء. وكان بلير (57 عاما) قد أعلن أنه سيتبرع بعائدات بيع مذكراته والمقدم الذى تقضاه من دار النشر ومقداره 4,5 ملايين جنيه استرلينى لهيئة خيرية للمساعدة فى إعادة تأهيل أفراد القوات المسلحة البريطانية المصابين، مما أثار عاصفة من الانتقادات تتهمه بأنه «يحاول إراحة ضميره المثقل بالذنب وغسل يديه الملطختين بدم الجنود البريطانيين». وفى الكتاب أعرب بلير، الذى يشغل حاليا منصب مبعوث اللجنة الرباعية لعملية السلام فى الشرق الأوسط، عن أسفه الشديد للقتلى الذين سقطوا فى حرب العراق، بيد أنه جدد التأكيد على أنه «غير نادم على قرار خوض الحرب» موضحا أنه «بالرغم من أن العواقب كانت رهيبة، فإن الحقيقة أن بقاء صدام وابنائه فى حكم العراق كانت ستكون له نتائج أسوأ بكثير»، إلا أنه أقر بأنه لم يكن يتوقع الكابوس الذى تكشف فى العراق بعد الإطاحة بنظام صدام، معترفا بأنه لم يؤخذ فى الحسبان دور القاعدة أو ايران فى العراق أثناء التخطيط لفترة مابعد الحرب. وبعدما دافع عن قراره الاشتراك فى الحرب كشف بلير أن الإعداد للإطاحة بصدام بدأ مع صدور «قانون تحرير العراق» عام 1998 وفى عهد كلينتون وتم تثبيت الأمر مع خطاب حالة الاتحاد فى يناير 2002 عندما أطلق بوش تعبير الدول المارقة التى عكست آراء المحافظين الجدد وفى طليعتهم نائب الرئيس الأمريكى حينئذ ديك تشينى والذى كشف بلير أنه كان يخطط لغزو دول أخرى فى الشرق الأوسط من بينها سوريا وايران عقب استكمال غزو العراق. كما تطرق بلير فى كتابه إلى ايران وقال إنه رغم أن امتلاك ايران أسلحة نووية سيشكل تهديدا على الغرب فإن الخطر الحقيقى يأتى من قدرتها على دعم التطرف الإسلامى. ومضى يقول «بصراحة فإن ايران تشكل خطرا على جاراتها العربيات أكبر مما تشكله على أمريكا أو بريطانيا». ومنذ بداية كتابه أوضح بلير «أنه لم يجد خلال فترة كتابة مذكراته التى امتدت ثلاث سنوات أى رغبة فى عمل أى اعتبار لأى شخص تناولته مذكراته» وكان أول من طاله ذلك خصمه الللدود داخل حزب العمال ثم خليفته فى رئاسة الوزراء جوردون براون حيث وصفه بأنه « صعب المراس ويمكن أن يدفعك إلى حافة الجنون فى بعض الأحيان». واعترف بلير بأنه فكر فى طرد براون من منصبه عندما كان وزيرا لخزانته إلا أنه خلص إلى أن ابقاءه فى الحكومة مقيدا أفضل من أن يكون فى الخارج طليقا ويسبب مشاكل له. وأضاف أنه كان يعلم أن تولى براون رئاسة الوزراء سيكون «وبالا على الحزب وعلى البلاد». ويروى بلير فى مذكراته كيف أنه شجع ديفيد ميليباند الذى كان وزير الخارجية حينها لتحدى براون على زعامة الحزب فى مايو 2007 عندما تنحى هو عن الزعامة إلا أن ميليباند تردد حينها لأنه لم يكن واثقا أنه يريد أن يكون رئيسا للوزراء. ويلقى بلير باللائمة على براون فى خسارة حزب العمال فى الانتخابات التشريعية الأخيرة فى مايو الماضى بسبب تخليه عن سياسات الوسطية الخاصة ب «حزب العمال الجديد». أما عن حليفه الأمريكى جورج بوش فقد أعرب بلير عن اعجابه الشديد به «أكثر من أى زعيم آخر فى العالم». ووصفه بأنه كان رجلا مثاليا لأنه كان ملتزما فعلا بنشر الديمقراطية. وذكر بلير أنه عندما ترشح بوش لفترة ولاية ثانية «كان من المفترض بصفتى ديمقراطيا أن أؤيد المرشح الديمقراطى جون كيرى الذى اعتقد أنه كان سيصبح رئيسا جيدا، ولكن الموضوع كان يتخذ معنى آخر وهو أن هزيمة جورج بوش كانت تعنى تماما هزيمة تونى بلير». ويكشف بلير النقاب للمرة الأولى عن أن الضغوط التى كان براون يمارسها عليه للاستقالة مبكرا بالإضافة إلى ضغوط مهامه كرئيس للوزراء، خاصة بعد تأزم الحرب على العراق، دفعته إلى تعاطى الكحوليات يوميا. ويشير إلى أن مثوله أمام مجلس العموم أسبوعيا لمدة نصف ساعة للإجابة عن أسئلة النواب كانت تجربة «مثيرة للرعب» فى حياته كلها. كما اعترف بلير بأنه فى سبيل إدارته شئون البلاد على النحو الذى يريد لجأ إلى الكذب، مشيرا إلى أن «الساسة يجبرون من وقت لآخر على إخفاء الحقيقة وثنيها وحتى تشويهها كلما تطلبت المصالح الاستراتيجية الأكبر ذلك». ويمضى بلير ليصعق القراء بصراحته حيث يقول عن العلاقة بين الرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون ومتدربته مونيكا لوينسكى إنها «لا تختلف عما يفعله معظم الرجال. وإذا كان قد كذب بشأنها فلأنه كان يرمى لحماية أسرته». وقال بلير إن الساسة يقيمون علاقات لأنهم يريدون الفكاك من «سجن ضبط النفس» الذى تفرضه عليهم الحياة السياسية. وتابع بلير قائلا «فجاة تنتقل من عالم المكائد والقضايا والمؤامرات غير المتناهية والمشكلات الخطيرة المتراكمة .. لتجد نفسك فوق جزيرة نائية من المتعة .. بعيدا عن كل ذلك .. حر .. لا تهتم بشئ».