هناك نظرية أو نظرة عميقة، تقول بأن أى مدخلات فنية أو اجتماعية أو حتى فلكلورية، من مجتمع إلى مجتمع آخر، تبدأ فى التحول والتبدل حتى تأخذ سمات المجتمع الجديد الذى ذهبت إليه، ولو أن هذه المدخلات للسكن أو الاستقرار، فى العالم الجديد الذى ذهبت إليه، فالمجتمع يلفظها فورًا، مثل الجسد الذى يطرد كبدًا غير ملائمة له، وهناك معركة فكرية دارت فى مصر حول هذه المفاهيم، لأن هذا الكلام إذا انطبق على مجتمعٍ ما، فانطباقه على المجتمع المصرى أكثر الشواهد على صحته، لأنه من المعروف أن الحضارات القوية فى تأسسها وبداية تكونها، غالبا ما تستوعب وتهضم كل ما يدخل إليها، ومصر مرّت عليها مراحل، لتطأ أرضها جيوش من بقاع شتى، ولكن حضارة مصر الشامخة والقوية كانت قادرة على تمصير أى عنصر خارجى يتسلل «إلى» أو يدخل «فى» أو يقتحم شعبها وأرضها، وكان الدكتور إسماعيل أدهم هو الداعى الأكبر إلى هذه النظرية، وكان يقول بأن مصر بعد دخول العرب إليها لم تفقد كثيرًا من عناصرها، عدا اللغة والديانة، وحتى اللغة القبطية التى ظلت تقاوم على مدى قرنين، كانت قد أخذت تصبغ اللغة الجديد «العربية» بطابعها، كذلك الديانة الإسلامية فى مصر سنلاحظ أن المصريين مدّوا بظلهم العريض الأفقى والرأسى على التقاليد والطقوس والعادات الدينية، لذلك سنجد هناك من يقول «الإسلام المصرى»، و«الدين الشعبى»، وكم حاولت بعض الجماعات أن تفرض بتعسف مقتضيات البدو الدينية على الدين فى مصر، فكان الشعب المصرى يرفضها ويثور عليها ويطردها بقسوته فى مثل هذه الحالات، ويقف شهر رمضان شاهدًا قويًّا على ذلك، واستقبال المصريين الخاص، للدرجة التى يقول فيها بعض أشقائنا العرب «رمضان المصرى»، فعادات وتقاليد وأغانى وسهرات رمضان المصرية تكون شاخصة بوضوح أمامنا، وليس أدل على ذلك أكثر من أغنية «وحوى يا وحوى» التى صارت علامة مصرية أصيلة لقدوم رمضان، وقرينة فنية لا يمرّ رمضان دون ورودها فى الشوارع والشاشات الصغيرة والمذياع، وكان تداول الأغنية بين الأطفال منذ إبداع الفانوس فى العصر الفاطمى، فينشدونها بألحان رتيبة وطفولية جميلة، وتتوارثها الأجيال متعاقبة حتى الآن، ويقرر الأستاذ خليل طاهر أن الفاطميين هم الذين أبدعوا هذه الأغنية، وكانت كلماتها فى البداية تقول: (أحوى أحوى إياها بنت السلطان إياها لابسة القفطان إياها بجلاجيله إياها يلّا نجيب له إياها) ومعنى الكلمات أن الطفل الذى ينشد الأغنية كان يتمنى أن «يحوى» عنده بنت السلطان ذات الثياب الجميلة والمزدانة بكل ما هو بديع، ويسترسل طاهر فى تفسير تحوير الأغنية فيقول: «إن السبب فى تحريف كلمة أحوى إلى كلمة وحوى مرده إلى عدم قدرة الطفل من أولاد الشركس أو العثمانيين أو المغاربة على نطقها إلا بقولة وحوى، فتأثرت البيئة بهذا التحريف الذى استهوى الأطفال واستسهلوه وأحبوه منذ العهد البعيد»، ورغم أن خليل طاهر يؤكد فاطمية الأغنية وتحولها وتحريفها، إلى أن أصبحت كما هى عليه الآن، إلا أن الشاعر مصطفى عبد الرحمن يورد تفسيرًا وأصولا أخرى كان قد كتبها الباحث محمد فهمى عبد اللطيف فى تحقيق علمى موثق، إذ كتب يقول: «قد لا يعرف الكثيرون أن أغنية وحوى أقدم من رمضان ومن عادات رمضان، وأنها من الأغانى التى كان يرددها قدماء المصريين على ضفاف النيل منذ آلاف السنين، وهى تحمل معنى من تاريخنا ودلالة من دلائل أساطيرنا.. فأيوحة مأخوذة من أيوح اسم القمر فى الفرعونية، وكان الساميون يسمون الشمس أيوح ومنه (يهوه) اسم الله المقدس عند اليهود، كما كانوا يسمون القمر (أجع)، ولكن المصريين نقلوا عنهم اسم القمر للشمس واسم الشمس للقمر، فكانوا يغنون الأغنية تحية للقمر إذا أهلّ فى شهر رمضان»، وأيًّا كان أصل الأغنية فهى سادت وغابت وعادت لتصبح محض أغنية مصرية معاصرة، وتحوُّل هذه الأهزوجة أو التحية الطفولية لرمضان أو للقمر، لم تتحول إلى أغنية إلا فى العصر الحديث، حيث إن الأغانى الرمضانية لم تنتشر إلا على ألسنة الرواة والمدّاحين الذين كانوا يرتادون الحى الحسينى، وينشدون الملاحم الشعبية وقصص البطولة والمواويل، كما يكتب مصطفى عبد الرحمن، وكما نعرف النص الحديث لأغنية وحوى يقول: «وحوى يا وحوى إياحة رحت يا شعبان إياحة وحوينا الدار جيت يا رمضان وحوى هلّ هلالك والبدر أهو بان شهر مبارك وبقاله زمان ما احلى نهارك بالخير مليان جيت بجمالك سقفوا يا عيال ما احلى صيامك فيه صحة وعال نفدى وصالك بالروح والمال طول مانشوفك قلبنا فرحان فى الدار خيرك أشكال وألوان بكرة فى عيدك يلبسوا فستان هاتى فانوسك يا اختى يا إحسان آه يا ننوسك فى ليالى رمضان بابا يبوسك وماماكى كمان وحوى». وهكذا نلاحظ أن النص أخذ صبغة مصرية خالصة، بالمفردات الخاصة جدا، والروح الشعبية والطفولية والمبهجة، والتى تلخص كل رمضان من بدايته، حتى يوم العيد الذى ستلبس له البنات الفساتين الجميلة والجديدة، وهذا النص فى شكله الأخير هذا، والذى اشتهر منذ زمان، كتبه شاعر اسمه حسين حلمى المانسترلى، ولحنه الموسيقار أحمد الشريف، وغناه الفنان أحمد عبد القادر بصوته الشجى المبهج الذى أصبح هو كذلك صوتا رمضانيا محضا، ويعود غناء هذه الأغنية بهذا الشكل إلى ثلاثينيات القرن العشرين، واشتهرت وتعممت مع نشأة الإذاعة المصرية فى مهدها الأول، لتصير من أشهر الأغانى التى يظل وهجها مضيئا حتى الآن.