فى هذا الشهر الفضيل التى تهفو فيه النفوس إلى بارئها، وتتطلع الأرواح إلى الملأ الأعلى، لا شىء يطفئ عطش الروح ككلمات أعلام التصوف، من عرفوا الطريق لرضوان الله، وتوسلوا إليه بإدمان الذكر وتطهير الباطن وتفقده، بعلوم السلوك والتخلية والتحلية، وفى القلب منهم الإمام ابن عطاء الله السكندرى، الذى سطر لنا كلمات موجزة واسعة الدلالات تمهد الطريق للسالكين، نحلق مع تلك الحكم التى عرفت باسمه، ونبدأ بالحكمة الأولى التى يقول فيها: «من علامة الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند وجود الزلل»، العمل المقصود هنا هو العمل الصالح من صلاة وصيام وذكر وحج وغيرها من ألوان الخير، التى يوفق الله العبد لها بمحض جوده وكرمه وتفضله، وحين يفتح الله لعبده بابا لطاعة يشعر لذتها قد تذهب به نفسه إلى أن الجنة هى الجزاء الأوفى فى الآخرة والحياة الطيبة فى الدنيا، لاستقامته على تلك الطاعات، هذا الشعور هو اعتماد على العمل فى نيل رضوان الله، فهل الاعتماد على العمل فى الشريعة محمود أم مذموم؟ يقول لنا ابن عطاء الله إياك أن تعتمد فى رضا الله عنك، وفى الجزاء الذى وعدك به على عمل وفقك الله له من صلاة أو صوم أو ذكر، بل اعتمد على لطف الله وفضله وكرمه، فهو من أقامك على طاعته، ولو شاء ما أقامك على ذلك، هل هناك دليل على هذا الاعتقاد الذى ينبغى أن يستقر فى قلب المؤمن، نعم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى رواه البخارى، وغيره «لن يدخل أحدكم الجنة عمله قالوا، ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا، إلا أن يتغمدنى الله برحمته»، إذن العمل ليس ثمنا لدخول الجنة، فالمطلوب إذا وفقت لأداء طاعة أن تطمع برضا الله وثوابه أملا منك بفضله، فإيمان المؤمن يقع دوما بين الخوف من الله والرجاء والطمع فى رحمته وجزيل مثوبته، ويقطع طريق المؤمن نحو الخوف اطمئنانه لعمله الذى قد يستعظمه فى نفسه، وإن وزن بنعمة واحدة من نعمة الله لطاشت كفة أعماله، إذن الحكمة تربى فى نفس المؤمن أن لا يبقى رجاءه فى رحمة الله مرهونا بعمله أو مرتبطا به، بل يبقى رهين رحمة الله، طامعا فى عفوه محتقرا عمله مقارنة بنعم الله عليه، بالشكل الذى يجعل رجاءه متصلا بالله غير منقطع، سواء فى حال الطاعة أو فى حال المعصية، فرب معصية أورثت ذلا وانكسارا بين يدى الله، أفضل من طاعة أورثت عزا واستكبار وقناعة فى نفس صاحبها أنه مستحق لثواب الله بفعل طاعته، التى يراها ميزة خاصة له، كما كان يقول قارون فرحا إنما أوتيته على علم عندى، فذم الله حاله ومقاله فى قرآن يُتلى إلى قيام الساعة. مقام الموحدين وحالهم كما يقول صاحب جوهرة التوحيد: فإن يثبنا فبمحض فضله وإن يعذب فبمحض عدله، وكما يقول الله تبارك وتعالى: «يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علىّ إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان»، وتأمل حال الأنبياء والصالحين فى افتقارهم إلى ربهم على ما ألزموا أنفسهم به من طاعة واستقامة على أمر الله، حتى إن أبا الأنبياء سيدنا إبراهيم الذى وصفه ربه بقوله: «إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين» يدعو ربه قائلا: «رب هب لى حكما وألحقنى بالصالحين» فقط يدعو ربه أن يلحقه بالصالحين، وهو داعية الصلاح الأول رسول الله المؤيد بوحى الله، هكذا يرى نفسه فى جناب الله، وفى جوار الصالحين، تأمل هذه النظرة من اتهام النفس بالتقصير والافتقار إلى عفو الله وتوازن الرجاء عند العبد فى حال الطاعة والمعصية، مع حال من يستعلى بالطاعات على خلق الله، ويحتقر العصاة ويجد نفسه على خير ما دام يعتزلهم ولا يبخل بذمهم، كما يذم الصحيح السقيم، كم نحن فى هذا الشهر بحاجة إلى التواضع واستشعار معية الله لخلقه الطائع منهم والعاصى، الطائع حين يحمد ربه على ما وفقه من طاعة سالكا طريقه لربه بجناحى الخوف والطمع، والعاصى الذى يسكب عبرات الندم، راجيا عفو ربه يطرق بابه راجيا لا ييأس من رحمة الله، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. إن أزمة بعض ألوان الخطاب الدينى أنها رفعت شأن أعمال الجوارح على حساب أعمال القلوب، وما شرعت عبادات الجوارح ليستعلى بها الناس، بل لتهذب القلب وتصلحه فيبقى مقدما على عمل الجارحة قائدا للجوارح متى استقام استقامت، فكم من قائم والقلب ذاهل عن حضرة المعبود معتقد أنه متصل بالله ما دام مقيما على بعض الطاعات، دون أن يتجسد أثرها فى سلوكه القلبى الذى جعله الله جواز النجاة، «يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم»، أيها العبد المسكين أطرق بابه طائعا أو عاصيا، وسيفتح لك أبواب رحمته.