«الشيخ» هو الأب الشرعى للمثقف المعاصر، هو عدوه الحميم وصديقه اللدود، أورثه العلة والملة، وتركة التناقض بين مسؤولية العمامة ووجاهة الزعامة. الشيخ هو قائد حركات التقدم والتنوير، وهو أيضا حارس التقاليد وعدو التجديد، محرك الثورات وحامل شعلة النضال فى قضايا الأمة، وهو أيضا مثبط الهمة ومفرق اللمة، هو نصير الفقراء، أسير الأغنياء، صوت العدل وسوط النذل، قبلة العوام وعصا الحكام، جسر اليقين وباعث الشك، ترياق الأزمات وموقظ الفتن ومروج الضلالات، موزع بين العمامة والصولجان، عين على المجد وعين على اللحد تاريخه -تاريخنا- متعدد الألوان، ثرى بالتجارب الحية والمتناقضات المذهلة، فهناك شيوخ عاشوا فى شموخ، وشيوخ ملأتهم الشروخ، شيوخ حرصوا على الإبداع، وشيوخ كرسوا الاتباع، شيوخ صنعوا الألق، وشيوخ أثاروا القلق. لم يكن بينهم ملائكة، ولم يكونوا شياطين، اجتهدوا فأصابوا حينا وأخطؤوا أحيانا، لكنهم يظلون دائما فى الصورة والذاكرة لأن اجتهاداتهم ومواقفهم (الصائبة والخائبة معا) هى التى صنعت حاضرنا، وهى (شئنا أم أبينا) من عوامل صناعة مستقبلنا، لذلك شغلتنى فكرة تقصى جذور العلاقة بين المثقف والسلطة من خلال تتبع الدور السياسى لشيوخ الأزهر فى مرحلة مهمة من تاريخنا، وهى مرحلة الحملة الفرنسية، التى يعتبرها المؤرخون الحد الفاصل بين مفاهيم العصور الوسطى والعصر الحديث، التى كانت بمثابة صدمة حضارية لمصر بعد أن جار عليها التاريخ وتحولت من مركز خلافة، وسلطنة قوية إلى مجرد ولاية تابعة للباب العالى فى أسطنبول خلال الحكم العثمانى. فى تلك الفترة كانت الدولة العثمانية تعانى من «الشيخوخة» بعد ثلاثة قرون من حكم العالم الإسلامى، مما شجع «كلاب الربيع» على محاولة انتزاع مصر من أيديها لأسباب تتعلق بأحلام نابليون بونابرت وصراعه مع الإنجليز. «كلاب الربيع» هى التسمية التى أطلقها بعض المؤرخين على الحملة الفرنسية فى نهاية القرن الثامن عشر «يوليو 1798»، التى شاع أنها «نور ونار» وبداية الالتفات إلى أفكار التحديث، حيث حمل الأسطول الفرنسى المطبعة إلى جوار المدفع، والعلماء بجوار المقاتلين، وأفكار التنوير مع خطط الحرب وأحلام التوسع والهيمنة. هذه الازدواجية التى نرى بها حملة بونابرت تكشف طبيعة مشكلاتنا الفكرية والسياسية المزمنة، خصوصا فى ما يخص العلاقة بين «المثقف والسلطة»، وفكرة الحوار مع «الآخر/ العدو»، وأعراض الفصام الناتجة عن التأرجح بين «الوافد والموروث» أو «الأصالة والمعاصرة» (أكثر الثنائيات شيوعا فى كتابات مفكرينا)، أو الانبهار بالغرب المتفوق والاستعداد النفسى والذهنى للامتثال والخضوع والتبعية، واستيراد نماذج الحياة الجاهزة، حتى لو جاءت فوق دبابات الأعداء. ربما يتساءل البعض عن جدوى الرجوع إلى الماضى فى ظل الأزمات المتلاحقة التى تعصف بنا، وربما يفضل آخرون بذل الجهد من أجل حل مشكلات الحاضر والتطلع إلى المستقبل، بدلا من مشاعر «الحنين المريض» إلى قصص الماضى وحكاياته. على هؤلاء وهؤلاء، أن يقرؤوا هذه المقالات وهم يتابعون نشرات الأخبار، ويمعنوا النظر إلى الواقع، حينها سيعرفون أن القصص القديمة تتكرر، لأن التاريخ عندنا يدور حول نفسه، يكفى فقط أن نركب آلة الزمن طوال شهر رمضان، ونراعى فروق التوقيت بين الماضى والمستقبل، وننتبه ونحن نشاهد صورتنا الحالية فى «ألبوم التراث»، ربما نفهم «الدرس»، وربما نجد تشابها إلى درجة التطابق فى بعض المواقف والأحداث، كأن التاريخ لم يمر، وكأننا شعب يبدل ملابسه ولا يبدل أفكاره، كما أننا سنكتشف بسهولة طبيعة العلاقة الوثيقة بين سيرة الوطن وسيرة «المشايخ» الذين كانوا قادة الوعى ورموز الفكر والعقيدة فى زمانهم، والذين أفرزوا طبقة المثقفين فى ما بعد، ولذلك لن نجامل ولن نتحامل، سنجتهد فى توضيح الصورة بعيدا عن أكاذيب التاريخ الرسمى، لن نمجد الكبار أو نقدحهم، ولن نلون الأحداث بأهواء السياسة وانحيازات الأيديولوجيا، سنقدم الحكاية بأسلوب ملحمى ودرامى يساعد على تكوين صورة شاكلة، كأننا فى مسلسل تليفزيونى، وأرجو أن يوفقنى الله فى طريقة العرض والسرد حتى لا أثقل عليكم فى الشهر الكريم. وغدا نبدأ.