كلنا يذكر النكتة التى تحكى عن شخص قال لصديقه: أنا عمرى ما كدبت فى حياتى إلا مرة واحدة، فأجابه صديقه: ودى التانية. الإنسان يكذب على الناس بسبب الخوف، أو بغرض الإقناع، أو التجمل، أو لتحقيق أهداف ومكاسب، إلا أن أحقر أنواع الكذب هو أن تكذب على نفسك. الكذب على الذات يورطك فى انهيارات أخلاقية، تتجاوز ذنب الكذب لتصل بك إلى الانحطاط الذى قد يلطخ يدك بالدماء. أفهم تماما لماذا يكذب المجلس العسكرى: هو يكذب لأنه خائف، وهو يكذب لأن لديه أطماعا فى السلطة، وهو يكذب لأنه يرتكب جرائم لا يرغب فى أن يحاسب عليها، وليس لديه أى نية للتوقف عن اقترافها، وهو يكذب لأن المكاسب التى يجنيها من القتل والكذب معا تساوى ملايين، بل مليارات الدولارات، وهو يكذب لأن قراره غير مستقل، فهو تابع لمن يعطيه المعونة، ومن يعطيه المعونة لديه مصالح فى بلادنا تأكل الأخضر واليابس. وأفهم لماذا يكذب الإعلام الذى يرتزق من الطبل والزمر والدق بالصاجات لكل حاكم، وأفهم لماذا يكذب الساسة الذين يرغبون فى القفز على السلطة، وأفهم لماذا يكذب رجال الدين الذين يتقاضون أجورهم بالدولار فى مقابل تكبيل الناس لصالح الطاغية، مستغلين كلمة الله بالباطل.. كلنا يفهم ذلك. ما يثير التساؤل عند البعض، لماذا يكذب المعوز والفقير والمسكين والضعيف والمجنى عليه وليس لديه أى مصلحة فى ذلك الكذب؟! ما الذى يجعل سائق التاكسى يتحدث عن أزمة البورصة؟ ما الذى يجعل امرأة فقيرة، أو رجلا متوسطا يتورطان فى الخوض فى أعراض الحرائر والحديث بقسوة مقززة عن شهداء أبرار وترديد جمل من قبيل: كانت لابسة عباية بكباسين.. وهى إيه اللى ينزِّلها؟ اللى فى محمد محمود دول بلطجية، اللى فى القصر العينى دول مأجورين، هو فيه طفل ثائر؟ طب إنت ليه بتقول كده يا حاج وتخلينى أدعى عليك وأقول ربنا يوريها لك فى ضناك ويعرّى لك أمك؟ لست مستفيدا من ترديد هذه الكذبات والتورط فى الدماء والأعراض دون مقابل. ربما العجز المختلط بالحرج؟ عندما تتنازع الإنسان رغبته فى الدعة مع حرجه من النذالة، يتورط فى الكذب على النفس الذى يوقعه فى أزمات أخلاقية، تجعل منه شخصا منحطا على المستوى الإنسانى، وغبيا على المستوى الفكرى، تماما كالذى يصر على أن زوجته، العائدة إلى منزلها مترنحة فى الفجر، تعمل كممرضة، ويقول له الناس: يا عم هو فيه ممرضة بتحط ترتر فوق عينيها وحسنة على دقنها وترجع سكرانة؟ مراتك مش ممرضة.. فيجيبهم بغضب شديد: اخرسوا، أنا مراتى أشرف من الشرف.. ممرضة، وبتحط مكياج عشان ترطب على العيانين. ذلك لأنه يشعر بالعجز الكامل أمام زوجته التى تنفق عليه من مال يعرف مصدره، ولا يريد أن يواجه نفسه بحقيقته، ولأنه لا يريد أن يتكبد مشقة تطليقها أو حتى البحث عن عمل يكفيه ويكفيها المال الحرام، ولأن العمل فى مهنة شريفة لن يدر عليه الربح الذى يجنيه من المتاجرة بشرف زوجته. هذا هو تماما موقف كل مواطن، أو كاتب، أو سياسى، أو شيخ، أو كائن ردد عبارات: هى إيه اللى بينزلها من بيتها؟ لابسة عباية بكباسين، لابسة عباية على اللحم، اللى بيموتوا دول بلطجية، اللى بيموتوا مدسوسين، دول أطفال شوارع. إن كانت «الكباسين» تخدش الحياء فلماذا لا تدهم مباحث الآداب كل المحال التى تبيع ملابس بها كباسين؟ وهل يفترض فى كل امرأة تنزل إلى الشارع أن ترتدى ملابس «زيبة» وأن تتحصن بقميص أسمنتى حتى تضمن أن لا تتكشف فى حال ما إذا عنّ لأحد جنود الجيش المصرى أن يخلع عنها ملابسها؟ وهل يعيب الثائر أن يكون فقيرا؟ فمن أوْلى من الفقير بالثورة؟ ولماذا يُتهم الفقير دوما بأنه بلطجى؟ وما الفارق بين أطفال الحجارة فى فلسطين وأطفال الثورة فى مصر إن كانت كل ممارسات الجيش المصرى العظيم تتشابه مع ممارسات الجيش الإسرائيلى؟ ولماذا، إن كنت جبانا ورعديدا وخسيسا ووضيعا، لا تصمت وتحط فى بقك جزمة بدلا من ترديد هذا الهراء؟