فى ندوات أستاذنا كانت تثار أحيانا أسئلة عن المعانى المقصودة من وراء بعض قصصه، أو مغزى بعض رواياته، ومن النادر أن يقدم محفوظ إجابة لهذا النوع من الأسئلة، وإن حدث تكون مقتضبة للغاية، أو تكون إجابته بسؤال عن المعانى التى وصل إليها القارئ صاحب السؤال. فثمة صفة كان يتحلى بها الأستاذ فى مواجهة الأسئلة الكثيرة عن مضامين إبداعاته، إذ هو لا يفرض تصورا معينا، أو معنى محددا لأى عمل من أعماله، وإنما هو يترك للمتلقى حرية تشكيل رؤيته الخاصة للعمل الأدبى كيفما شاء، فكما كان صدره يتسع لكل ما تفعله فنون الدراما السينمائية، والتليفزيونية، والمسرحية بأعماله الفنية، دونما أى تدخل منه، فكذلك كان يترك القارئ حرا تماما فى طريقة استقباله لمغزى العمل الأدبى، أو فهم معانيه المضمرة بين السطور. وإذا رجعنا إلى بدايات تعلق محفوظ بفن القص، فسنرجع إلى مرحلة ما قبل النشر، إذ إن الصبى النجيب عشق القصص والروايات فى سن مبكرة، وكان يلخص ما يقرؤه من روايات، أو يعيد كتابتها بأسلوبه الخاص فى كراسات، ويكتب عليها اسمه! وكأنما كان يعلم، أو يتنبأ وهو فى سن الطفولة هذه، أن اسمه سيسجل على عدد كبير من الروايات، والقصص التى ستخلب لُب القراء فى الشرق والغرب، حين تترجم إلى أكثر من أربعين لغة. ثم كتب نجيب محفوظ، وهو فى هذه المرحلة المبكرة من حياته، ثلاث روايات لم تنشر أى منها، إحداها كانت تدور حول عالم لعبة كرة القدم، فقد اندمج الصبى محفوظ فى لعب كرة القدم لسنوات عدة، وقد برز وتفوق فى هذه اللعبة، لكنه منع نفسه من الاستمرار فيها حتى لا تأخذه عن ما هو أهم منها. وثمة رواية أخرى، من هذه الروايات الثلاث، كان عنوانها «أحلام القرية». وكان الأستاذ يتعجب وهو يحكى لنا عن هذه الرواية، إذ يقول كيف كتبت رواية عن القرية وأنا فى هذه السن؟! والحقيقة أن محفوظ، وكما ذكر لنا مرة، كان قد قضى أسبوعا فى الريف عند بعض أقاربه، وهو فى سن الصبا، ولعله رأى من أحوال القرية المصرية فى هذه المدة القصيرة ما يستحق الكتابة عنها. أما الرواية الثالثة، فكانت بعنوان: «الأعوام»، وقد كتبها الأستاذ بعد قراءته السيرة الذاتية للدكتور طه حسين: «الأيام»، فكتب رواية على ذات المنوال، إذ حكى فيها تفاصيل حياته اليومية عبر سنوات الطفولة، لكن هذه الروايات الثلاث فقدت جميعا، أو على الأصح مزقها الأستاذ بنفسه، حين رأى أنها دون المستوى. وقد اطلع المفكر الكبير سلامة موسى على أعمال الأستاذ نجيب الأولى، وكان يشجعه على مواصلة الكتابة، وحين قرأ رواية «حكمة خوفو» وافق عليها، ورأى أنها جديرة بالنشر، ولم يغير أى شىء فيها سوى العنوان فقط، ومن ثم كانت رواية محفوظ الأولى هى: «عبث الأقدار»!