من الطبيعى أن تكون الشهرة المطلقة للشاعر الكبير الراحل مأمون الشناوى منسوبة إلى الأغانى العظيمة التى كتبها لأعلام الغناء المصرى مثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وليلى مراد وفايزة أحمد وسعاد محمد وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وأسمهان وغيرهم، بل الأدهى من ذلك أنه كتب لهم أحلى وأجمل وأرق ما اشتهروا به، فكتب لأم كلثوم مثلا: «أنساك يا سلام، وكل ليلة وكل يوم، وبعيد عنك حياتى عذاب، ودارت الأيام»، وكتب لفريد الأطرش أغنيات كثيرة منها: «أول همسة، وبنادى عليك، والربيع، وحكاية غرامى، وسافر مع السلامة»، وكذلك كتب لعبدالحليم: «صدفة، ونعم يا حبيبى نعم»، وغيرها من الأغنيات، وكانت كل هذه الأغنيات وغيرها سببا فى شهرة من غنوها، وكان الفنانون والملحنون يسعون خلف مأمون الشناوى مكتشف المواهب ليمدهم طوال الوقت بالجديد، فهم يعرفون كم هو يجيد ويكتب بصدق وعمق مشاعر كل ما تخطه يداه، وكان ينتصر للفن بشكل مطلق، وفى كتابه الجميل والرائع: «صعاليك الزمن الجميل»، يقول الكاتب الراحل يوسف الشريف، الذى كتب فصلا بديعا عن شاعر، يسرد فيه حفنة هائلة من الأسرار والذكريات، يقول إن مأمون الشناوى كان يتعجب لمرور الأغانى الحديثة الرديئة من لجان الرقابة والنصوص فى الإذاعة والتليفزيون، ولهؤلاء المطربين الذين يرددونها كالببغاوات، وكان دوما يسترشد بالآية الكريمة: «كمثل الحمار يحمل أسفارا»، وكان يطالب بتحويل كل هؤلاء إلى النيابة بتهمة إفساد الذوق العام، وإهدار تراثنا الغنائى الأصيل! ولمأمون الشناوى الشاعر الغنائى دور كبير فى اكتشاف وتشجيع مواهب كثيرة، بداية من انحيازه إلى عبد الحليم حافظ، ما أغضب منه فريد الأطرش، حتى اكتشافه للفنان أحمد عدوية الذى كان يغنى بشكل عفوى عندما كان يبيع السندوتشات لرواد «الترسو» فى سينما «الفنتازيو» بالجيزة، كما يقول الشريف، حتى آخر أغانيه «بتخاصمنى حبة.. وتصالحنى حبة»، للفنانة عزيزة جلال، وأحصى مؤرخو الفن أن مأمون الشناوى قد كتب 1670 أغنية، ولكن الشريف ينفى ذلك، ويسرد أسبابا كثيرة لرواج هذه الإشاعة، ورغم أن شهرة مأمون الشناوى قد أتت أساسا من كتابة الأغانى، ولا نريد أن نكرر ما كتبه يوسف الشريف، إلا أن الشناوى له دور آخر، ربما يجهله أو يتجاهله كثيرون، وهو دوره فى الصحافة المصرية، فمنذ عيّنه محمد التابعى محررا فى مجلة «آخر ساعة»، فى الأربعينيات، وكان قبلها يكتب الشعر العمودى فى مجلة «أبوللو»، راح الشناوى ينشط بشكل واسع فى الكتابة الصحفية، فأنشأ مجلة صغيرة وبديعة اسمها «كلمة ونص»، وشاركه فى تحريرها الصحفى صلاح عبد المجيد، وكانت هذه المجلة جريئة، وكان إخراجها الصحفى جديدا، وكانت المادة تتنوع بين السياسة والفن والاجتماعيات، وكانت تحمل رسائل تحذيرية حادة إلى القادة، فمثلا فى العدد السادس عام 1947 نقرأ بتوقيع «كلمة ونص» وتحت عنوان -سياسة المساطيل-: «لم ندرس قضيتنا، ولم نلم بتاريخنا الحديث، وقد اعتمدنا كثيرا على المباحثات والمفاوضات، فلم نقم بعمل يذكر لعرض المسألة المصرية على دول العالم، ومعظم الشعوب تعرف عنا أننا شعب يمشى على أربع، ونحن نظن أنهم يعرفون عن نهضتنا وحقوقنا ما نعرف وما لا نعرف! هذه هى سياسة المساطيل»، وفى العدد ذاته هنا كقصيدة بيرم التونسى التى تنذر وتقول: «الأمة طالعة بجيوشها من أمير لغفير لا ذرة ولا جن يحوشها من مصير لمصير» وكذلك هناك كاريكاتير لأبى الهول، وقد علقت لافتة على فمه، وكتب تحت الكاريكاتير بيت الشعر الذى يقول: «تحرك أباالهول هذا الزمان تحرك ما فيه حتى الحجر» وكذلك نقرأ تهكما على الإنجليز فى العدد رقم 17 بتوقيع «كلمة ونص»، يقول التعليق تحت عنوان «الطريقة الوحيدة»: «هؤلاء الصهيونيون الذين تعطف بريطانيا على قضيتهم تعلن جمعيتهم الإرهابية أن الجنود البريطانيين الذين يضبطون وهم يحملون الأسلحة فى فلسطين سيحكم عليهم بالإعدام شنقا أو رميا بالرصاص!، يظهر أن هذه هى الطريقة الوحيدة التى تصلح للتفاهم مع الأسد البريطانى». وهكذا ظلت تصدر هذه المجلة بتنوعها المثير، حتى إن قامت الثورة، وانضم مأمون الشناوى إلى كتيبة صحفيى «الجمهورية»، وراح يكتب عمودا يوميا مهما تحت عنوان «لا ونعم»، وفى كل يوم كان يثير قضية، كذلك كان يكتب مقالا أسبوعيا طويلا فى الجريدة، وكان يغطى أشهر القضايا والمحاكمات فى عقد الخمسينيات، وبعيدا عن كل ذلك فالشاعر الرقيق مأمون الشناوى قد شارك بالكتابة فى تجربتين صحفيتين شديدتى الأهمية فى تاريخ اليسار المصرى، وهما جريدة «الملايين» التى كان يرأس تحريرها أحمد صادق عزام، وكانت تديرها منظمة «حدتو» أى الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى، وكذلك كان يكتب فى مجلة «الكاتب» الذى كان يصدرها الكاتب ورجل السلام يوسف حلمى، وكذلك تحسب المجلة لصحافة اليسار فى ذلك الوقت، وكان عمود مأمون الشناوى يطلق عليه: «طلقة»، وكان يهاجم سياسة البطش التى وصل إليها «الوفد» فى ذلك الوقت، وفى عمود له بتاريخ 9 يونيو 1951، كتب يهاجم النحاس باشا الذى انحاز إلى الإنجليز ضد روسيا فى قضية الوثائق المزورة، فبدأ ساخرا بأن الذى اشترى العتبة الخضراء أحسن حالا من النحاس الذى اشترى الوثائق المزورة، وانتقد النحاس عندما اعتبر أن الاتصال بالروس جريمة، لكنه كان يرى أن الاتصال بالإنجليز شىء عادى، ويعلق الشناوى قائلا: «لن يخرج الإنجليز من مصر.. والذين يحكمونها حريصون على عواطف الإنجليز أكثر من الإنجليز أنفسهم.. لن يخرج الإنجليز من مصر وفيها الطبقة من الحكام التى تدين للإنجليز بالمال والجاه والسلطان». للأسف الشاعر مأمون الشناوى الذى حلّت مئوية ميلاده فى يناير الماضى لم يتذكره أحد إلا قليلا، فهل نتدارك هذا الأمر ونحتفل به فى 27 يونيو القادم، حيث تحل ذكرى رحيله العشرين، ونحتفل بتجربة فريدة فى الفن والصحافة والسياسة.