المجتمع المصرى مثل أى مجتمع آخر مر بثورة ضخمة تمثلت فى ثورة الخامس والعشرين من يناير وتوابعها السياسية والاجتماعية، فقد كانت الظاهرة المميزة لتلك الفترة هى تسيس قطاعات ضخمة من المجتمع بانغماسهم فى المناقشات السياسية وتصويتهم فى الاستحقاقات الانتخابية العامة منذ الاستفتاء على التعديلات الدستورية بعدد مصوتين وصل إلى 18.5 مليون صوت، مرورا بانتخابات برلمانية بمشاركة 28 مليون مصوت، ثم وصلنا إلى الانتخابات الرئاسية الأولى ب26 مليون مصوت فى جولة الإعادة بين الرئيس السابق محمد مرسى والفريق أحمد شفيق، ثم التصويت على دستور 2013 بعدد مصوتين يصل إلى 17 مليونا. ونالت باقى الانتخابات القاعدية فى الاتحادات الطلابية والنقابات نصيبا كبيرا من الاهتمامات، فانتخابات نقابة المهندسين الأولى بعد ثورة يناير بلغ حجم المشاركة بها أكثر من 100 ألف مهندس، وكذلك نقابة أطباء الأسنان بنسبة مشاركة تخطت ال55%، ونسب مشاركة تخطت حاجز ال30% من مجموع الهيئة الناخبة فى انتخابات نقابة الأطباء فى عام 2012. اهتمام شرائح المجتمع الوسطى والفقيرة بالعملية الانتخابية الإجرائية، بعد 25 يناير 2011، كان مدفوعا بآمال عريضة حول تحسن الأوضاع المعيشية وظروف العمل وفرص التكافؤ بين الجميع، من خلال المسار السياسى. لكن على مدار السنوات الثلاث الماضية، كان الفرقاء المدنيون يطلبون من رجل الشارع العادى أن ينحاز لأحدهم ضد الآخر، فى معارك الهوية والدستور والقوانين والإعلام والقضاء وتشكيل الوزارات، البعيدة تماما عن مطالب الشارع المعيشية. ومع استمرار الأزمة السياسية المستمرة منذ 25 يناير، وتنظيم المتنازعين عديدا من الفاعليات الاحتجاجية المستمرة، واشتعال الأحداث الدموية، وتحدى وإضعاف سلطات الدولة فى السيطرة على عديد من المناطق الجغرافية مثل سيناء ومناطق حدودية أخرى، بما أثر بالسلب على قطاعات اقتصادية أساسية مثل السياحة والإنشاءات والخدمات، تعيل الملايين من المصريين. وعلى قدر ما تمثله 30 يونيو فى ظاهرها، على أنها ذروة الخلاف السياسى بين الفرقاء المدنيين فى الوصول إلى حل للأزمة السياسية، واستدعاء المعارضة للمجتمع ضد السلطة فى ذلك الوقت، لكن فى باطن 30 يونيو واصطفاف المجتمع ضد السلطة هو إعلان المجتمع ثورته الكبرى على السياسة وإعلان بدء نزع التسيس الذى تميز به المجتمع فى أعقاب ثورة يناير. ودلالات نزع تسيس المجتمع ظهرت فى: 1- مظاهرات ملايين من المصريين فى 26 يوليو الماضى، استجابة لدعوة وزير الدفاع آنذاك عبد الفتاح السيسى، من أجل دعم وتفويض المؤسسة العسكرية فى محاربة الإرهاب المحتمل، وفى طياته تأييد فعلى لفض اعتصامى ميدانى رابعة والنهضة فى ما بعد. 2- الدعم المجتمعى لوقف التظاهر بشكل تام، متمثلا فى دعم إصدار الرئيس المؤقت عدلى منصور قوانين مقيدة للحريات مثل قانون التظاهر، تحت دعوات وقف حالة اللا استقرار. 3- دعم المجتمع لملاحقة الدولة الإعلامية والأمنية للنشطاء السياسيين والمتحزبين ومنظمات حقوق الإنسان، تحت دعاوى التخابر والعمالة للخارج. 4- نزوح شرائح ضخمة من المصريين عن المشاركة فى الاستحقاقات الانتخابية العامة والنقابية. 5- الاستفتاء الدستورى الثانى فى يناير 2014، حيث عزوف فئة الشباب عن المشاركة فى الاستفتاء على غير العادة فى باقى الاستحقاقات الانتخابية منذ بدء ثورة يناير. 6- انتخابات نقابة المهندسين، تم سحب الثقة من مجلس نقابة المهندسين السابق بخمسة عشر ألف صوت، وانتخابات المجلس الجديد تمت بنسب مشاركة متدنية وصلت إلى أقل من 4% من مجموع الهيئة الناخبة، بعد وصول عدد المصوتين فى انتخابات النقابة الأولى إلى 100 ألف مهندس. 7- انتخابات التجديد النصفى لنقابة الأطباء، حيث وصلت نسبة المشاركة لأقل من 10% من مجموع الهيئة الناخبة، فى حين بلغت نسبة المشاركة فى انتخابات النقابة بعد الثورة أكثر من 30%. مشهد اللجان الانتخابية الخاوية فى الانتخابات الرئاسية المنصرمة، لا يتم تفسيره فى نطاق مقاطعة العملية الانتخابية، لكن فى نطاق خروج المصريين إلى الشوارع فى الثلاثين من يونيو يهتفون بسقوط العملية السياسية برمتها، وما تلاه من عزوف مستمر عن السياسة بشكل عام والمشاركة الانتخابية بشكل خاص. ويجب أن يدرى الجميع سواء كان من القوى المعارضة أو النظام السياسى، أن خسائر إنهاء ارتباط المجتمع بالعملية السياسية على المدى الطويل، من نصيب الفئة الداعمة عملية التحول الديمقراطى والإصلاح السياسى سواء من أوساط المعارضة أو النظام السياسى، حيث أغلب بدائل التغيير الآمن من داخل العملية السياسية.