إن تزامن الأحداث الأخيرة فى ليبيا مع خفوت نجم التيارات اليمينية الدينية المتطرفة وتصاعد حدة الأزمة الأوكرانية وصفقة الغاز الروسية-الصينية. ثلاثة محاور تشكل، مرحليا، الخريطة الجيوسياسية والجيواقتصادية فى العالم حاليا. ففشل سيناريوهات الولاياتالمتحدة بتمكين القوى اليمينية الدينية المتطرفة، ودعم الإرهاب، فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، دفعها إلى الاستدارة واعتماد سيناريوهات مغايرة فى مناطق أخرى مثل أوكرانيا تعتمد على نفس المنهج بدعم القوى اليمينية القومية المتطرفة. كان من الواضح أن واشنطن وأوروبا تخططان لتقليل الاعتماد على الغاز الروسى، وحرمان موسكو من ورقة ضغط على المحور الأوروأطلسى. وكان من الضرورى تعبيد طرق نقل الغاز القطرى والعراقى عبر سوريا بعد تحويلها إلى نسق يمكن التحكم فيه ومده بنسق «ديمقراطى!» شبيه بالنسقين الأفغانى والعراقى، ومن ثم يمكن استخدام موانيها القريبة من أوروبا كدولة ترانزيت للغاز. ولكن فشل السيناريوهات الأمريكية الأوروأطلسية –إلى الآن- فى سوريا، خصوصا بعد السقوط المدوى للقوى اليمينية الدينية فى مصر، والتقارب المصرى-الروسى، دفع بالولاياتالمتحدة إلى سيناريوهين مهمين. الأول زعزعة الاستقرار فى منطقة البحر الأسود عن طريق أوكرانيا، ومحاولات إغلاق المنفذ إلى البحر المتوسط عبر البحر الأسود أمام روسيا من جهة، والسعى لعرقلة تصدير الغاز الروسى إلى أوروبا عن طريق الأراضى الأوكرانية كورقة ضغط على روسيا وعلى أوروبا فى آن واحد. السيناريو الثانى الجديد تماما هو ما يجرى فى ليبيا بعد أن أصبحت مرتعا لكل الجماعات الإرهابية، إذ ظهرت إمكانية جديدة للجم هذه المنظمات والجماعات، وليس القضاء عليها تماما، بظهور قوة العسكريين. هكذا ظهر اللواء خليفة حفتر الذى أعلن عن تجميد المؤتمر الوطنى، وتحديد موعد للانتخابات، ومكافحة الإرهاب. وخفتر ابن الشرق الليبى انشق على نظام القذافى بنهاية ثمانينيات القرن العشرين، ثم عاد إلى ليبيا فى عام 2011 للمشاركة فى الأحداث بعد أن عاش 20 عاما كاملة فى الولاياتالمتحدة. ومع ذلك أصدرت واشنطن بيانا نفت فيه أى علاقة لها باللواء حفتر. هناك إمكانية لدعم حفتر من أطراف مختلفة، سواء كانت دولية أو إقليمية، لا لأن حفتر سيقضى على الإرهاب فورا، وإنما لأنه قد ينجح فى تأمين خطوط إمدادات الغاز الليبى أو غير الليبى إلى أوروبا. وإذا كان الصراع فى ليبيا يدور بين قوى متشابهة أحيانا ومختلفة فى أحيان أكثر رغم تشابه مناشئها ومصادرها، إلا أن الصراع الحقيقى يدور بين الأطراف الداعمة لهذه القوى. فهناك الإخوان المسلمون والسلفيون وتنظيمات تابعة للقاعدة وقوى سياسية أخرى (قومية وليبرالية).. كل هذه القوى تتصارع وتتنافس، وكل قوة لها من يدعمها ويعزز وجودها. لقد أثبتت السنوات الثلاث الماضية أن ما خطط له الأمريكان والأوروبيون فى المنطقة قد فشل بنسبة كبيرة. ثم ظهرت الأزمة الأوكرانية المرتبطة ارتباطا وثيقا بالطاقة وبالأمن الأوروأطلسى وبنفوذ الولاياتالمتحدة وطموحاتها فى صراعاتها مع روسيا. كل ذلك شجع الأمريكيين والأوروبيين على إصدار إعلانات بفرض عقوبات على موسكو ومحاولات عزلها، سواء بتقليل الاعتماد على الغاز الروسى، أو تمدد حلف الناتو نحو الحدود الروسية مباشرة، لكن صفقة الغاز الروسية الصينية جاءت لتضع بعض النقاط على الحروف، حتى إن واشنطن أصدرت بيانا ملتبسا بهذا الصدد. لقد وقعت شركة «غازبروم» الروسية وشركة النفط والغاز الوطنية الصينية «CNPC» على صفقة لتوريد 38 مليار متر مكعب سنويا من الغاز الروسى إلى الصين لمدة 30 عاما. وتزامنا مع الصفقة أعطى الرئيسان فلاديمير بوتين وشى جين بينج، إشارة الانطلاق لمناورات «التعاون البحرى- 2014». وهى المناورات الروسية-الصينية المشتركة الثالثة من نوعها، ما يوضح أن هناك توجهات تجمع موسكو وبكين لتعديل المعادلة الجيوسياسية العالمية القائمة. هنا تبدو التهديدات الأمريكية-الأطلسية لروسيا باهتة على خلفية التحركات الروسية أو الصينية، فهل المسألة فعلا أوكرانيا، أم أن هناك أسبابا أخرى، من بينها الطاقة وطرق نقلها والدور الروسى فى سوريا والتعاون بين موسكو وطهران؟! لقد هدد جو بايدن، نائب الرئيس الأمريكى، روسيا بعقوبات جديدة، وأكد التزام الولاياتالمتحدة باحترام المادة الخامسة فى معاهدة حلف الأطلسى حول الدفاع الجماعى، لكنه كشف عن أحد أهم الأهداف الرئيسية لواشنطن عندما شدد على ضرورة أن تؤمن دول المنطقة استقلالها فى قطاع الطاقة عن روسيا. واعتبر أن على حلف الناتو العمل وبأسرع ما يمكن لزيادة وجوده العسكرى على حدود الحلف الشرقية. وكشف عن أن «أمريكا وحلفاءها فى الناتو رفعوا الحضور العسكرى لقواتنا فى الجو والبر والبحر فى المنطقة الشرقية لنفوذ الحلف». على هذه الخلفية المتشعبة، تأتى الأحداث الجارية فى ليبيا كطوق إنقاذ، وإن كان مشكوكا فى صلاحيته 100٪، لسيناريو أمريكى جديد نسبيا، سواء فى سعيها لتقليل الاعتماد على الغاز الروسى، أو تقديم خدمات إلى أوروبا بتوفير جزء من الغاز مقابل عسكرة الدول الأوروبية ودفعها إلى مواجهات مع روسيا. وهى ورقة تبدو للمساعدة، لكنها فى حقيقة الأمر تشكل ورقة ضغط غير عادية على حلفائها الأوروبيين.