أعلنت روسيا اعترافها باستقلال وسيادة جمهورية القرم بعد استفتاء 16 مارس. وأصدرت السلطات الأمريكية قائمة تضم أسماء عدد من الشخصيات الرسمية فى روسيا وشبه جزيرة القرم ورئيس أوكرانيا وبعض مساعديه، فرضت عليها عقوبات على خلفية الأزمة الأوكرانية، شملت حظر منح تأشيرات الدخول إلى أراضى الولاياتالمتحدة وتجميد الأصول المصرفية لهؤلاء الأشخاص، الموجودة فى المصارف الغربية. وفى تطور لاحق وافق الرئيس الروسى فلاديمير بوتين على مشروع معاهدة مع جمهورية القرم بشأن انضمامها إلى روسيا الاتحادية. وينص المشروع على إنشاء وحدتين إداريتين جديدتين فى قوام روسيا، هما جمهورية القرم ومدينة سيفاستوبول التى ستتمتع -وفق المشروع- بوضع خاص داخل روسيا. وفى خطابه الاستثنائى أمام الجمعية الفيدرالية، طلب الرئيس الروسى بوتين من البرلمان إعداد الوثائق اللازمة لإعلان جمهورية القرم ومدينة سيفاستوبول إقليمين روسيين. وكذلك الاتفاقية اللازمة لذلك من أجل التوقيع الفورى عليها. وأنهى بوتين كلمته بتوقيع الاتفاقية مع المسؤولين فى شبه جزيرة القرم وسيفاستوبول، وسوف يقوم البرلمان بالتصديق عليها لاحقا. على صعيد آخر أعلنت تركيا رفضها الاعتراف بنتائج الاستفتاء الذى جرى فى شبه جزيرة القرم، والذى اختار فيه السكان الانضمام إلى روسيا. وأكد وزير الخارجية التركى أحمد داوود أن «هذا الاستفتاء غير معترف به وليست له أى شرعية». مضيفا أن «الاستفتاء ينتهك وحدة الأراضى الأوكرانية وقد يؤدى إلى توترات جديدة». وقبل ذلك استخدمت روسيا حق الفيتو فى إبطال مشروع قرار فى مجلس الأمن الدولى بشأن هذا الاستفتاء وعدم شرعيته. كل هذه الأمور تشير إلى مقدمات احتكاكات عسكرية فى البحر الأسود قد تؤدى إلى حرب إقليمية أو عالمية. ولكن لا أحد يتحدث عن السيناريو الأمريكى بشأن تمكين القوى اليمينية المتطرفة، سواء كانت دينية أو قومية. ولا أحد يتحدث عن القوى التى وصلت إلى السلطة فى كييف، وكانت السبب فى كل ما يجرى تقريبا. هذه القوى القومية المتطرفة المتحالفة مع القوى الليبرالية التابعة تماما للولايات المتحدة وأوروبا تحمل السلاح فعليا. غير أن الأخطر هنا هو اهتمام الولاياتالمتحدة بتتار القرم الذين تبلغ نسبتهم فى شبه جزيرة القرم 12٪ فقط من إجمالى السكان، بينما تصل نسبة الروس إلى 60٪، ونسبة الأوكرانيين إلى 20٪. إن تركيز وسائل الإعلام الغربية وأجهزة الاستخبارات الأمريكية ينصب الآن على تتار القرم «المسلمين» فى محاولة خطيرة لتحويلهم إلى قنابل طائفية موقوتة. والعمل جار الآن على هذا المسار بشكل غير عادى، خصوصا بعد أن ظلت تركيا صامتة طوال الأشهر الثلاثة الماضية «ردا لجميل روسيا بعدم التدخل فى الأحداث الداخلية هناك»، ثم أعلنت فجأة رفضها للاستفتاء فى القرم. علما بأن تتار القرم يتحدثون باللغة التركية. والمعروف تاريخيا أن فرنسا وبريطانيا استخدمتا الدولة العثمانية لضرب روسيا فى حرب القرم فى منتصف القرن التاسع عشر فى حرب راح ضحيتها آنذاك نصف مليون شخص. والآن ليس من المستبعد أن تستخدم أوروبا والولاياتالمتحدةتركيا مرة أخرى لمواجهة روسيا، خصوصا أن تركيا «عضو حلف الناتو» تطمح للانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، بينما حكومة أردوغان فى مأزق تاريخى يكاد يعصف بها وبأحلامها. ومن الممكن أن تكون المواجهة مع روسيا أو على الأقل اتخاذ موقف حاد، طوق إنقاذ لأردوغان وحكومته، وطريقا لتحقيق الحلم الذى طال انتظاره بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبى أو الحصول على رضا الغرب مجددا. فى سياق متصل، كان من المتوقع أن تعترف روسيا باستقلال جمهورية القرم، وتبدأ بإقامة علاقات سياسية واقتصادية وإنسانية كاملة دون ضمها كحل وسط مع الغرب. إذ إن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل صرحت بأنه فى حال ضم شبه جزيرة القرم إلى قوام روسيا، فإن الغرب سوف يفرض عقوبات مشددة على روسيا. أى أن ميركل لم يكن لديها مانع من اعتراف موسكو باستقلال شبه الجزيرة على أن يتم الإعلان عن عقوبات شكلية على روسيا. ولكن توقيع بوتين على قرار ضم القرم وسيفاستوبول إلى روسيا يشير إلى أن هناك معلومات استخباراتية تؤكد النية المسبقة للولايات المتحدة وحلفائها الأوروأطلسى لتطبيق سيناريو تمكين القوى القومية المتطرفة والليبراليين التابعين للغرب، سواء داخل روسيا أو خارجها، كما حدث فى سيناريو الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. إضافة إلى نيات حلف شمال الأطلسى التوسع شرقا، وهو الأمر الذى كان يماطل ويساوم فيه الحلف طوال السنوات السابقة. غير أن وقوع أوكرانيا فى أيدى التيارات القومية المتطرفة والنازيين الجدد أنعش الفكرة مجددا وجعلها قاب قوسين أو أدنى من التنفيذ. وفى حال عدم تحقق الفكرة كاملة، فإن الولاياتالمتحدة وأوروبا ستنجحان بدرجة أو بأخرى فى دق عدة أسافين فى المنطقة، على رأسها استعداء تتار القرم ضد روسيا على أسس دينية وعرقية واستخدامهم ورقة للضغط وتضليل الرأى العام العالمى، ومن ثم استخدام جزء من التنظيمات الإرهابية الناشطة فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأفغانستان وإرساله إلى شبه جزيرة القرم لنصرة الإسلام التتارى هناك. وكذلك بناء سور عازل بين غرب أوكرانيا وشرقها وإثارة النعرات الدينية والقومية هناك، لتتحول المنطقة إلى ساحة للصراعات التى ستعطل مرور الغاز الروسى إلى أوروبا، مما قد يضر بجميع الأطراف. ولكن الولاياتالمتحدة ستكون فى كل الأحوال فى مأمن لأنها بعيدة عن كل هذه الأحداث جغرافيا واقتصاديا. بل وربما تستفيد كثيرا من هذه الصراعات على المستوى الاقتصادى. وهذا ما تنبه إليه الرئيس البولندى عندما أعلن أن حجم التبادل التجارى بين روسياوالولاياتالمتحدة يصل إلى 40 مليار دولار فقط، بينما يبلغ حجم التبادل التجارى بين روسيا والاتحاد الأوروبى 400 مليون دولار. وشدد، رغم عدائه الشديد لروسيا ودعمه غير المحدود لسلطات كييف الجديدة، على أن ما يجرى لا يؤثر على الولاياتالمتحدة لأنها تقبع هناك وراء المحيط، بينما الدول الأوروبية هى التى ستدفع الثمن اقتصاديا وسياسيا وتاريخيا، وربما عسكريا! هذا وتتضح تدريجيا أبعاد السيناريو المحيط بالأزمة الأوكرانية، إذ صرح وزير الخارجية البريطانى وليم هيج بأنهم بدؤوا بمناقشة خفض اعتماد أوروبا على الطاقة الروسية. مما يعطى انطباعا أوليا بأن هناك حالة من حالات الانتقام من روسيا. ولكن مثل هذا التصريح قد يؤكد انطباعات أعمق عن محاولات الولاياتالمتحدة وأوروبا التحكم الكامل فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وكذلك السعى المسعور لتمكين التيارات اليمينية الدينية المتطرفة من السلطة فى المنطقة، وما حدث فى العراق وليبيا.