لماذا ترضى بالقليل.. ترضى بالفتات.. بالإصلاح إذا سقط شهداء من أجل الثورة؟ وهذا هو الفارق بين مصر الآن ومصر قبل أن يرحل مبارك وعائلته من قصر الرئاسة. رحلوا، بصفقة؟ باتفاق؟ بمراعاة لقيم زائفة عن احترام الرجل العجوز، والقائد القديم؟ ليس مهما... المهم أنهم رحلوا ومعهم حزمة قيم فاسدة تحكمت فى حياتنا حتى دمرت جهاز المناعة وجعلت الزيف واقعا والظلم عرفا والعدالة مستحيلة. رحلوا لكن بقاياهم ما زالت عالقة فى كل شىء حولنا. لا يحلم الفقير مثلا بمشروع تنمية ولكن بكيس زيت وسكر يتركه مرشح الحزب الأغنى على بابه. ولا يحلم المسيحى مثلا بالمواطنة، ولكن بالحماية. سألت الموظفة الشابة: من انتخبت...؟ قالت لى: الكتلة. وترددَت قليلا قبل أن تقول: أنا ماليش فى السياسة. وأكملت لها:... لكنك انتخبتِ الكتلة لأنك خائفة من الرعب القادم. نظرت إلىّ وأعادت نفس الكلمة: أنا ماليش فى السياسة... (وبعد لحظة) لكنى أريد أن أعيش فى أمان.. وأعرف أن المفروض أن نكون جميعا متساوين فى هذا البلد... لكن من يحقق هذا؟ يختار المسيحى الممكن لا الحلم.. لماذا؟ لماذا يعود خطاب القبول بالظلم فى صورة أخرى طلبا للحماية؟ المسيحى يتعلم بالحماية، وهذا ما جعل المسيحيين يغادرون بيوتهم ليصوتوا طلبا للحماية لا للمواطنة. إنه تصويت على الهوية، وهى بقايا الإقامة الطويلة فى صفيحة قمامة ارتضينا بها فى سنوات انحطاط مبارك. الآن نحن نخرج وبقوة الثورة من هذه الصفيحة، وعلى أجسادنا جميعا بقايا... لن نتخلص منها بسهولة. لكننا خرجنا... ونسير باتجاه جمهورية جديدة، لن نصل إليها صباح الغد، لكننا سنصل إليها ما دامت العين مفتوحة على اتساعها، وما دام الحلم يزاحم قوانين الواقع التى تبدو أحيانا كما لو كانت قدرا. الشابة تدافع عن البقاء فى بلدها، ولأنها تتصور أن مصر التى تحلم بها لن تتحقق، تفكر فى الهجرة. ارتباك سببه انتشار الوعى السياسى بقبول الحماية لا المواطنة الكاملة... وعى ساذج يعطل تطور الحياة السياسية كلها لتصبح عقود حماية أو تطمينات أو كما يقول الصديق شريف يونس: قبول بالذمية.. وهو قبول قد يحقق بعض الأمن لكنه يبعدنا من جديد عن مفاهيم الدولة الحديثة حيث لا تمييز لأحد بسبب الدين أو اللون أو اللغة أو العرق أو الحساب فى البنك. الدولة الحديثة لا تقوم على تطمينات، ولكن على حقوق مدونة.. لأن التطمينات لا تصلح عندما يشعر أحد بعد 200 سنة من بناء دولة حديثة فى مصر أن هناك من يريد منى الجزية أو أن أضع علامة زرقاء على بيتى أو أركب الحمار بالعكس كما كان يحدث فى الدولة القديمة التى تقوم شرعيتها على الانتصار العسكرى... وقدرة الإمبراطوريات على الوصول بخيولها إلى أبعد نقطة. هذه دول أخرى اخترعها الرومان والفرس، وكانت بنت عصرها، ولم يعد مقبولا قيامها لا هنا ولا فى البلاد التى اخترعتها. الدولة الحديثة لا تعتبر المساواة منحة من أحد أو تفضلا وكرما من أصحاب الأغلبية، والتعدى على هذا الحق جريمة واضحة المعالم. ربما يُرضِى بعض فتوات التطرف جمهورهم المسكين بهذه الخطب والدعوات إلى التفوق أو الحصول على ميزات، للرجال مثلا على حساب النساء أو للمسلمين على حساب المسيحيين، ويتصورون أن إرضاء الجمهور المتعطش للتميز هربا من العجز أو الشعور بالدونية، هو انتصار على الدولة التى نشرت استبدادها قبل حداثتها، وتميزاتها قبل عدلها، وكان من الطبيعى أن يتربى جمهور المظلومين والمحرومين على عداء مع الدولة بما تمثله من حداثة. الثورة فتحت الباب أمام أحلام المظلومين والمحرومين، والفتوات تصيدوا هذه الأحلام... وحولوها إلى معارك خاطئة يقودون فيها جمهور الأغلبية إلى عمليات انتقام من الدولة الحديثة لا من استبدادها فقط. هذه بقايا مبارك، وفاتورة جمهورية الاستبداد التى ندفعها لأننا لم نثق بالأحلام بما يكفى، ولا تخلصنا من تربية تقول «ابعد عن السلطة وغنى لها» بما يكفى لنعيش فى بلد محترَم. لم يكن سوى الشيخ أو من يشبهه له الحق فى التكلم بعدما فقد السياسى ثقة الناس، الشيخ الآن يطالب بمساحة أكبر فى السياسة، وسيفقدها بعد فترة يكتشف فيها أن خطاب الدعاء على الدولة الحديثة والدعوة إلى التمييز على حسب الدين أو الطائفة مشوار قصير قد يحصد فيه مقاعد فى أول انتخابات لكنه لن يحصد سوى اللعنات لأن الخلط بين أحلام المظلومين والبحث عن هوية الدولة والرغبة فى سلطة الفقهاء... خلطة مغرية لكنها تفيد جنودا لا مواطنين.. والحلم الذى تتسع الأعين باتجاهه الآن أن نكون مواطنين لا رعايا ولا جنودا لأى فصيل أو جماعة أو مجلس. ... مواطنين تكون السياسة طريقهم إلى دولة محترمة تحمى العدالة لكى لا تتوالد الأجيال من أطفال الشوارع، أو يعيش 23٪ من المصريين دون حمامات... أو يموت الفقراء على أبواب المستشفيات. وهنا لا يهم هوية الدولة ولا دينها. ولا يهم إذا كانت تنظر فى ديانة المواطن قبل أن تمنحه حقه. ولا يهم أن تتابع طول فستان المرأة. ... هذه الأحلام لم تعد بعيدة.. إنها بعيدة ونحن نتخلص من نتيجة الإقامة الطويلة فى سنوات الانحطاط.