حادثة كنيسة القديسين في الإسكندرية، ليست مجرد واقعة عنف، بل هي علامة من علامات حدوث خلل اجتماعي واسع داخل المجتمع المصري، وهو خلل متعدد الأبعاد ومتراكم، أي أنه خلل عميق، مس بنية المجتمع المصري، ولم يعد من الممكن تجاوزه. هي ليست حادثة عارضة، بل هي حادثة تعبر عن حالة من فقدان التوازن والتماسك، داخل الجماعة الوطنية المصرية. وكل محاولة للتعامل مع الحادثة، بوصفها خروج على الأمن والقانون، هي تصغير للمشكلة، بل وهروب منها. لقد حدث خلل عميق في تعامل الدولة مع مكونات المجتمع المصري، ظهر هذا في إصرار النظام على استقطاب الجماعة المسيحية، لتصبح السند الشعبي الوحيد له. وإصرار الكنيسة على تأييد نظام الحكم أيا كانت تصرفاته وسياساته. رغم أن الجماعة المسيحية لديها قناعة عميقة بأن النظام الحاكم يستهدفها، ومع ذلك تتصرف بوصفه أفضل لها من أي خيار آخر. وتصبح الجماعة المسيحية محمية طبيعية للنظام الحاكم، حيث يحاول أن يجعل حمايته لها مبررا دوليا لبقائه في الحكم. وتصبح الجماعة الأقرب للحكم، هي نفسها الجماعة التي تعتقد أن الحكم الحالي يضطهدها بصورة منظمة للقضاء عليها. ونظام الحكم يحاول جاهدا الحفاظ على ثلاثية التحالف القائمة بين الحكم والجماعة المسيحية والغرب، ليصبح هو المنفذ الوحيد المتاح لسياسات الغرب الهادفة لحماية الجماعات المسيحية في المنطقة العربية والإسلامية. والجماعة المسيحية من جانبها تتصور أن الهيمنة الغربية تحمي وجودها، ويتزايد التيار الذي يعتقد أنه بدون الهيمنة الغربية سوف يتم القضاء على الجماعة المسيحية في مصر، وفي العديد من الدول العربية والإسلامية، رغم أن الجماعة المسيحية المصرية عانت أكثر من غيرها، من الهيمنة المسيحية للغرب، والتي مازالت تعمل على نشر الفكر المسيحي الغربي، ظهر ذلك مثلا في محاضرة بابا الفاتيكان بنديكتوس السادس عشر، والتي اعتبر فيها الإسلام دين غير عقلي، واعتبر أيضا أن مسيحية الشرق، مسيحية غير عقلية. وأمام عامة المسلمين في مصر، تصبح الجماعة المسيحية هي القرين الاجتماعي للنظام المستبد والفاسد، وهي المعين والداعم للهيمنة الغربية والتدخل الخارجي، مما يجعل الجماعة المسيحية تقع في مربع الخصوم، رغم أنها ليست خصما بالفعل السياسي أو العملي، بقدر ما أصبحت خصما بسبب الوعي الجمعي السائد لدى الجماعة المسيحية، والملاحظ من عامة المسلمين. فقد أخرجت الجماعة المسيحية نفسها من الهوية الجامعة للمجتمع المصري، وهي الهوية العربية الإسلامية، واعتبرت أن الطابع العربي والإسلامي للمجتمع يهمشها، وأصبحت النزعة المصرية القومية العلمانية هي الحامية لها، فوضعت الجماعة المسيحية نفسها في خصومة مع الهوية السائدة في المجتمع، وبالتالي اختل توازن المجتمع وتماسكه، لأن توازنه يقوم أساسا على التوافق حول الهوية الجامعة. والدولة التي تعلن أنها حامية المواطنة، وحامية المسيحيين بالتالي، لا تعرف كيف تعبر عن الانتماء العام، ولا عن الهوية السائدة في المجتمع، ولا تعرف كيف تكون الإطار الحاضن للمجتمع، والذي يبني تماسكه وتوازنه. فقد أصبحت الدولة تتصرف بصورة تخل بكل معايير التوازن داخل المجتمع، فهي تضيق على المسيحيين في بناء الكنائس عندما تريد، وتفتح باب بناء الكنائس إذا شاءت، وتشعر المسيحي أنه رهن رضا الحاكم، وتجعل الكنيسة مرتبطة بالنخبة الحاكمة وليس الدولة بمعناها الإداري والتنظيمي. وتمر مراحل تضيق الدولة على الكنيسة، ولكنها في مراحل أخرى تضيق على الجامع وتترك الكنيسة، وكأنها تريد الحفاظ على سيطرتها على مجمل الأوضاع، رغم أن ما تقوم به يشعر المسيحي بأنه مظلوم، ويشعر المسلم بأنه مظلوم، ثم يرى المسيحي أن المسلم له وضع مميز، ويرى المسلم أن المسيحي له وضع مميز. والحقيقة أن الدولة تحاول السيطرة على الجميع، وفرض هيمنتها على المجتمع حتى لا يستطيع تحصيل حقوقه وحرياته. لقد شهدت الجماعة المسيحية أكبر وأضخم حادثة عنف ضدها، وهي في حالة تحالف مع النخبة الحاكمة وتحت حماية الدولة، وهي حادثة لم تحدث عندما كانت الدولة على خلاف مع الكنيسة، وكانت في مواجهة مع الجماعة المسيحية. فالعنف هنا يعبر عن نتائج سياسات الدولة على المجتمع، حيث أصبح المجتمع مفككا بقدر واضح، كما فقد توازنه الداخلي، ودخل في نفق الصراعات الداخلية. والمجتمع المصري ليس كثير التنوع، وفيه نجد أن التنوع بين المسلم والمسيحي هو أوضح صور التنوع، وبالتالي يصبح الاختلاف في الدين من أهم عوامل التصنيف داخل المجتمع، وعندما يتفكك المجتمع يحدث شرخ في بنيته، ويصيب هذا الشرخ مظاهر التنوع، فيفرق بين أكثر الجماعات المعبرة عن أهم تنوع في المجتمع. ولأن المجتمع يعاني من العديد من المظالم، لذا فإن حالة الاحتقان في المجتمع تتعمق مع الوقت، ولكن حجم المظالم ليس واحدا في كل الفترات. والملاحظ أن الدولة لا توزع الظلم بين الجميع بالعدل، إن جاز التعبير. ففي المرحلة الأخيرة دخلت الدولة في خصومه مع كل المظاهر الإسلامية، وفرضت قيود على المساجد وأممتها، وأصبحت المساجد تابعة للدولة، وحاربت الدولة كل مظاهر التدين، وحاربت كل الحركات والتيارات الإسلامية، بل وحاربت الفضائيات الإسلامية أيضا. وفي هذا المناخ تعلن الدولة أنها حامية الجماعة المسيحية، ويستقبل رئيس الدولة بابا الكنيسة، فتختل الصورة بالكامل، ويتأسس عدم التوازن الاجتماعي، وحالة الاحتقان الديني. ففي مراحل سابقة تمتع العمل الإسلامي بمساحة حرية أكبر، ولكن الوضع تغير. وكذلك فإن سياسات الدولة تجاه النشاط المسيحي تتغير، والمحصلة النهائية هي تكريس عدم التوازن المجتمعي، بحيث لا تتساوى أقدار الناس في الظلم، مما يعرقل توحدهم في مواجهة الظالم. هي سياسة فرق تسد إذن، التي أخلت بالتوازن المجتمع، وجعلت المجتمع المصري قريب من الفوضى والتفكك. وهي سياسة الاستعمار الخارجي في كل أشكاله، وهي أيضا سياسة الاستعمار المحلي، أي السلطة المستبدة الفاقدة للشرعية. ولكن سياسة الاستعمار التي تهدف إلى التفريق بين مكونات المجتمع، تؤدي إلى تلاحم المجتمع في وجه المستعمر الأجنبي، ولكن سياسة الاستعمار المحلي، والتي تهدف أيضا للتفريق بين مكونات المجتمع، تفرق المجتمع بالفعل، وتفكك وحدته وتماسكه.