"عندما تولى السلطان برقوق حكم مصر، حرم على الباعة النداء على فاكهة البرقوق بهذا الاسم فكانوا يطلقون على البرقوق اسم الأشقر، حتى انتهى عصر السلطان برقوق" هذه واحدة من الطرائف التي يمكن أن يطالعها القارئ في كتاب "حرافيش القاهرة" الصادر عن الهيئة العامة للكتاب لعبد المنعم شميس الذي عمل وكيلاً لوزارة الاعلام لفترة وأصدر كتب منها "قهاوي الآدب والفن"، و"عظماء من مصر". كتاب "حرافيش القاهرة" الصادر ضمن سلسلة أدب، يصعب في الواقع تصنيفه، فهو يقع بين الكتابة الأدبية الأشبه بقصص قصيرة، وبين كتاب تاريخ يتناول جانب من تاريخ العاصمة، وهو تاريخ المكان والمهن، بجانب نوادر وطرائف قد لا يعملها غير أهل عابدين نظراً لإقامتهم بجوار قصر عابدين. شميس يتناول في أول فصول كتابه مهنة الأغا، فيذكر أن أشهر أغا في مصر هو خليل أغا، والأغا هو الرجل الخصيّ الذي أُفقد ذكورته منذ كان طفلاً، ولذلك كان يسمح له بدخول الحريم في الجيل الماضي، وقد يبلغ الأمر أنه يدخل مع السيدة في الحمام فلا يخشى منه لأنه والسيدة سواء. "حرافيش القاهرة" يحتوي على 23 فصل، يتناول في كل فصل منهم مهنة من المهن، التي أندثرت منذ سنوات طويلة، وأشهر من اشتغل فيها وقتها، أو شخصية اشتهرت بحي عابدين لسبب ما، ويمكن أن تكون ظاهرة انتشرت في المجتمع كالحرافيش، الذين كونوا طائفة خطيرة في القاهرة، وقد بلغ عددهم أربعة آلاف حرفوش، وكانت لهم سطوة حتى أنهم يجتمعون ومعهم شيخهم ويذهبون إلى القلعة في المواسم والأعياد والمناسبات وهي كثيرة جدا، ويقفون تحت أسوار القلعة لطلب العادة وهي بعض أرغفة الخبز ورطلان من اللحم لكل حرفوش مع دينار ذهبي على الأقل ولا ينصرفون إلا إذا أخذوا العادة. ويذكر الكاتب واقعة غريبة بين السلطان الغوري وحرافيش القاهرة، حيث نزل إليهم السلطان ذات مرة، بعد أن أرسل إليهم الخبز واللحم ليمنحهم العادة وهي دينار لكل حرفوش، وكان معه خمسة آلاف دينار ولكنها لم تكف وصاح كثيرون منهم في السلطان الذي أمر بإحصاء عددهم فوجدهم أربعة آلاف حرفوش، فجن جنونه وقال لحاشيته: - كيف لا تكفي خمسة آلاف دينار وهم أربعة آلاف حرفوش؟ وبرغم ذلك اضطر لإحضار ألوف أخرى من الدنانير حتى يصرفهم من تحت أسوار القلعة، وقد كان الحرفوش يتقدم أكثر من مرة ليأخذ ديناراً من السلطان. ولعل من أغرب الحكايات التي ذكرها عبد المنعم شميس في كتابه، لكن دون أن يذكر مصدرها، -وفي الأغلب هو نقلها عن أخرين في الحارة، دون معرفة المصدر الحقيقي للحكاية-، أن الخديوي إسماعيل أراد صنع تمثال لمحمد بك لاظ أوغلي رئيس وزراء جده محمد علي، فلم يجدوا صورة مرسومة لمحمد بك لاظ أوغلي يشاهد فيها المثال الفرنسي ملامحه ليصنع التمثال، ثم رأى محافظ القاهرة سقاء في خان الخليلي يشبه لاظ أوغلي، فأخذه إلى المثال وقال له إن هذا الرجل هو محمد بك لاظ فصنع تمثالاً للسقاء، وأصبح تمثال لاظ أوغلي في ميدانه الشهير بقلب القاهرة هو تمثال سقاء من حارة السقايين التي تبعد خطوات عن الميدان. ويحكي صاحب كتاب "القاهرة والجبرتي" عن "عم أحمد النجار" أو النجار الفيلسوف كما أطلق عليه الكاتب، فيذكر أنه كان من أشهر النجارين في حي عابدين، وأمهرهم، إلا أن الغريب في شخصية هذا النجار هو ثقافته، فكان على علاقة قوية بالمستشرق الكبير الدكتور بول كراوس، الذي كان أستاذاً بكلية الآداب جامعة القاهرة، بينما كان الكاتب تلميذ في الكلية. ويروي شميس أن الدكتور كراوس كان يذهب في كل يوم جمعة ليجلس مع الأسطى أحمد النجار لساعات طويلة، قبل أن يجدوه ميتًا بشقته في حي الزمالك، وقد سيطرت عليه قبل وفاته بعدة أشهر أفكار عن القرآن، حيث كان يحاول اثبات بطرق مختلفة أن القرآن ما هو إلا شعر، لكنه في النهاية فشل في ذلك، وانتحر!!