إذا كان الاهتمام بالتعليم هو الدليل على تقدم أى دولة، والصحة عنوان عافيتها، والنظافة علامة تحضرها، والتاريخ شاهدا على حضارتها، فإن الطرق تُعبّر عن مدى احترام أى دولة لمواطنيها. والطرق هى «الأسفلت» بالأساس، وإذا تحدثنا عن نوعية «أسفلت» الطرق فى مصر، سنكون كمن يتحدث عن «اختراع» لم نعرفه بعد فى بلدنا، رغم أننا نباهى الأمم بأن أجدادنا علّموا البناء للبشرية كلها، وقدموا للإنسانية إحدى أهم عجائب الدنيا ببنائهم لهذا الإعجاز الهندسى الفريد المسمَّى الأهرامات، ثم فشل أحفادهم وخابوا فى امتحان الأسفلت. لا يوجد طريق واحد على امتداد مصر كلها، يمكننا أن نُطلق عليه وصف «طريق آمن» بالمواصفات القياسية العالمية، فكل طرقنا الرئيسية والفرعية مليئة بالمطبات والحفر بسبب سوء الرصف، وتنتشر فيها التعرجات الثعبانية والتشققات الأرضية، وتجعل من السير على تلك الطرق مغامرة محفوفة بالمخاطر، تحتاج إلى «بهلوان» يتثنّى مع تعرجاتها ويتفادى تشققاتها ويقفز فوق مطباتها، وليس مجرد سائق سيارة يسير وهو يركز فقط على الطريق، الذى يُفترض أن يكون سلسا وناعما وصلبا فى الوقت نفسه. ولأن طرقنا ليست كذلك، باتت مصر تحتل المرتبة الأعلى عالميا فى معدلات حوادث الطرق، وفق إحصائيات منظمة الصحة العالمية، ويسقط فيها سنويا عشرات الآلاف بين قتيل ومصاب. طرقنا يتبدل حالها مع تبدل الفصول، تنبعج وتتمدد بالحرارة صيفا، وتتحول إلى أخاديد وحفر عميقة مع سقوط الأمطار شتاء، رغم أننا لا نعرف مناخا قاسيا قسوة صيف دول الخليج أو حتى إفريقيا، ولا تهطل علينا الأمطار سيولا تجرف كل ما تجده فى طريقها، أو تتساقط الثلوج وتغطى الأرض كما فى دول عربية وأوروبية كثيرة، ورغم ذلك تنزاح حرارة الصيف ولهيبه، وينقشع صقيع الشتاء وثلوجه، فنجد «الأسفلت» فى طرق تلك البلدان ظل صلبا مريحا ولم يتأثر حاله، حتى نظن نحن أهل المحروسة، أبناء حضارة السبعة آلاف سنة، وأحفاد بناة الأهرامات، أن هذا الأسفلت مشتق من «مادة سرية» عجزنا عن اكتشافها، وأن ما نستخدمه فى رصف طرقنا هو «عجينة» من الزبدة أو الحلاوة مثلا، تسيح مع أى ارتفاع فى درجات الحرارة، أو تتفكك مع أقل زخة أمطار، أو تنهرس تحت عجلات أى شاحنة نقل ضخمة. أقول ذلك بمناسبة حركة الرصف الضخمة التى تجرى الآن، لإعادة تأهيل الطرق الرئيسية فى القاهرة الكبرى وعدد من المحافظات، بعد ما أصاب تلك الطرق من إهمال أو تخريب متعمد فى الأعوام الثلاثة الأخيرة، أو الاكتفاء بعمليات «الترقيع» التى كانت تجرى لأغلب الطرق منذ سنوات ما قبل ثورة يناير 2011. حركة الرصف الحالية بدأها، للحقيقة والإنصاف، المهندس إبراهيم محلب عقب توليه مسؤولية وزارة الإسكان فى وزارة الدكتور حازم الببلاوى، منتصف عام (2013) الماضى، وقبل أن يتولى الرجل رئاسة الوزارة منذ أسابيع، إذ عمد محلب إلى تنفيذ خطة ضخمة لإعادة رصف وتأهيل الطرق الرئيسية والحيوية، ليس بهدف إنقاذها من حالتها المتردية فقط، ولكن أيضا لتنشيط قطاع التشييد والبناء، كأحد أهم القطاعات الاقتصادية التى عانت من الركود منذ اندلاع ثورة يناير، وكذلك تأمين الطرق لحركة النقل البرى، وهو قطاع اقتصادى مهم أيضا. لكن السؤال: هل سنستخدم النوعية نفسها من «عجينة الأسفلت»، التى نعتمد عليها منذ سنوات، فى رصف شوارعنا وطرقنا؟ الأرقام تقول إن إنتاج مصر من «الأسفلت» يبلغ حاليا نحو (2٫3) ألف طن يوميا، بواقع ألف طن من معامل تكرير البترول بالإسكندرية، وهو الذى يُنتج ما يُعرف بأسفلت الخدمة الشاقة (60/70)، وألفا أخرى من «معمل النصر» بالسويس، و(300) طن من «معمل العامرية» بالإسكندرية. ولأن هذا الإنتاج المحلى لا يكفى، قررت وزارة البترول مؤخرا زيادة استيراد كميات إضافية للأسفلت، بواقع (3٫5) ألف طن أسبوعيا، لمواجهة التوسع العمرانى ورصف وتطوير الطرق القائمة والجديدة. والأهم من السؤال الأول، سؤال آخر: هل العيب فى «العجينة»، أى نوعية الأسفلت المُستخدم، أم فى فساد ضمير وخراب ذمة من يتولى تنفيذ الرصف، أو من يُشرف على استلام الطرق من الشركات المُنفذة، أم أنها «مافيا» مشتركة من الطرفين، تقتسم وتستولى على مئات ملايين الجنيهات سنويا، مقابل رصف طرق لا تُرصف وتعبيد شوارع لا تُعبد، بالأسلوب العلمى الصحيح الذى يعرفه العالم كله، وتكون النتيجة إهدار المليارات فى عمليات الرصف، ثم إعادة الرصف مرة أخرى بعد شهور، وربما بعد أسابيع فقط مثلما هو حال الطريق الدائرى، الذى دخل موسوعة «جينيس» العالمية فى عمليات الرصف الفاشلة، وتكرارها لعدة مرات خلال أشهر قليلة، ولا زالت السيارات تتأرجح عليه صعودا وهبوطا حتى بعد عمليات رصفه المستمرة حاليا؟ السؤالان موجهان إلى رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب، الذى يتحدث دائما عن ضرورة احترام الدولة لمواطنيها، وليس لدىَّ أدنى شك فى صدق حديثه، لكن لأنه رجل اكتسب سمعته المحترمة كلها كرجل بناء وتشييد، عليه أن «يخترع» لنا أسفلتا كالذى يعرفه ويستخدمه العالم كله، لا يتمدد بالحرارة ولا «يتبربر» بالبرودة، لنُشيد منه طرقنا ونسير عليها آمنين. إنْ فعل الرجل ستكون معجزة، وسنطلق عليه «أسفلت محلب».