لو دخلت العفاريت بلدا، فلن يحكمه غير الجنون، المنطق -بالضرورة- هو أول ضحايا العفاريت، ومع سقوطه تتقوض تباعا سائر قوانين الحياة، تتساوى فى أعيننا كل الطرق المؤدية إلى الخلف أو التى تقود نحو الأمام، تتساوى كلها فى أعيننا، لو دخلت العفاريت بلدا، فإن الجهات الأصلية أو الفرعية تتداخل مع بعضها على شكل دوائر كتلك التى فى المتاهات، يختلط اليمين باليسار، ولا يغدو هناك فرق بين الأعلى والأسفل، إشارات المرور تصبح -كالألعاب النارية فى الأعياد- خالية تماما من المعنى، أرجو -يا أستاذ قارئ- أن تتكرم بملاحظة التشابه اللغوى بين لفظى الجن والجنون، عندما تفقد البوصلة عقلها تشير الإبرة إلى الجنوب، ولا يوجد ما هو أكثر غباء من تخيل أن العالم يمكن أن يتغير وفقا لما يرسمه شخص يتعفرت فى (لحظة تجلى) على الخريطة، مقياس الكفاءة الوحيد عند الإنسان سيكون هو مدى قدرته على التشقلب فى الهواء، إذا صارت الأرض فجأة هى السقف، فليس أمام الجميع سوى الوقوف على رؤوسهم. ولم يكن المقال الذى كتبته صباح الخميس الماضى على صفحات «التحرير» مقطوع الصلة بالعفاريت التى تحاول الآن اختطاف مصر، المحور الرئيسى كان جلسة لتحضير الأرواح فى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين، يومها أيضا لم أستغرب، فمعظم المؤشرات التى تحدد اتجاه الريح فى اللحظة الراهنة، لا تبتعد كثيرا عن هذه العقلية فى واقع الأمر، السؤال الوحيد الذى ظل يزمجر -كالعواصف الرعدية- بين أرجاء ذهنى هو: ما الذى أعاد إلى حيز الوجود ظاهرة تحضير الأرواح التى انتشرت -مع سائر ما طفح من الدمامل المشابهة على جلد الوطن- فى أعقاب نكسة 1967؟ أولاد الحلال أفهمونى منذ اللحظة الأولى أن الشقة الفاخرة التى ستقام فيها الجلسة تقع فى شارع عدلى، وأن صاحبها واحد من أهم تجار الورق فى مصر، لديه العشرات من العقود الطويلة الأمد التى يتولى بموجبها توريد كل أصناف الورق إلى الجهات الرسمية، الطريف فى الأمر أنه يكره من كل قلبه هذا الشىء الذى اسمه: القراءة، ولا حتى من باب الفضول ليعرف ما الذى يطبعونه على كل الأطنان من الورق التى يبيعها لهم، البعض من العاملين معه يؤكدون أنه يا دوب بيفك الخط، لكن الجميع ينسبون إليه القول المأثور الذى مفاده أن الورق الأبيض أربح -بمراحل- من المطبوع، وأن الكتابة على الورق تقلل من قيمته فى الأسواق. بالتليفون، أخبرنى مدرس التربية البدنية -الذى هو ابن خالة صاحب البيت- بأن لكل شخص من الموجودين الحق فى أن يطرح على الروح سؤالا واحدا فقط، حتى يتيح الفرصة لغيره، وأن الوسيط هو دائما من يتلقى الرد الذى يأتى على هيئة صوت احتكاك القلم المثبت فى أسفل السلة بسطح الورقة، وأن العشاء سيكون قبل بداية الجلسة بتسعين دقيقة، ليتمكن الجميع من الدخول فى الجو على أقل من مهلهم، قلت فى نفسى: أرواح تستدعى بالطلب، لتحدد مسار المستقبل، فما الذى يمنعها من أن تأتى -أيضا بالطلب- لتحشر أنوفها فى صنع الحاضر؟ ما أن غرقت الحجرة فى الظلام الدامس دون سابق إنذار، حتى هبت عاصفة من الشهقات الغريبة المتفاوتة فى شكل التعبير عن الاضطراب أو حدة الشعور بالفزع، بدا كما لو أن أعدادا هائلة من الأشباح المجهولة الأسماء أو الملامح تصعد الآن من تحت الأرض هنا فى قلب القاهرة. الطرف الثالث الذى تتحدث عنه جميع البيانات الرسمية يسميه المصريون باللهو الخفى، من هؤلاء الذين ينجحون دائما فى مغافلة الشرطة العسكرية، ولا تستطيع أجهزة الأمن إلقاء القبض على أحد منهم، على الرغم من كل هذه الفظائع التى يرتكبونها ليل نهار؟ هل هم كائنات فضائية جاءت على ظهر أطباق طائرة لا تكتشفها أكثر أجهزة الرادار تطورا؟ أم أنهم طوفان من الأوراح الشريرة أو العفاريت الحمر أو الزرق التى تخطط لاحتلال هذا الوطن بأسلحتها الشيطانية التى لا تخطر لنا على بال؟ هل عفاريت ريا وسكينة وحسب الله وعبد العال هى التى سحلت الفتيات، كما شاهدهن العالم على صدر جميع الصحف الكبرى بطول وعرض الكرة الأرضية؟ عفاريت من تلك التى قامت باستخدام القوة المفرطة إلى درجة القتل مع سبق الإصرار والترصد ضد المتظاهرين؟ عفاريت من تلك التى ارتكبت كل هذه الجرائم، بدء بالبالون وماسبيرو وشارع محمد محمود ومحيط مجلسى الشعب والوزراء، بالإضافة إلى المذابح أو الكشف عن عذرية البنات أو اصطياد العيون التى تكررت مرارا فى ميدان التحرير؟ كنا نستشعر الخوف من احتمالات عسكرة المجتمع، أو دفعه إلى أسفل حتى تصبح مصر صورة من أفغنستان، أعتقد أننا نخشى فى هذه اللحظات أيضا من عفرتة البلد، وهو ما يعنى أن يسقط بالكامل تحت سلطة العفاريت. أخطر ما فى الأرواح هو أن أحدا لا يستطيع أن يراها أو يحقق معها أو يقدمها إلى المحاكمة.. لا أحد يدرى ما الذى يحدث أو لماذا أو من الفاعل أو لحساب من؟ أما العفاريت، فلم تعد تكتفى بالمظهر التقليدى المعتاد الذى استقر فى أذهان الناس، بهاتين العينين المحمرتين اللتين تقدحان بالشرر، أو السيقان الشديدة النحافة كأرجل الماعز، اكتسبت مع التقدم التكنولوجى القدرة على التنكر فى زى ضباط أو جنود الشرطة العسكرية أو البلطجية المسجلين من أرباب السوابق أو الأمن المركزى، العفاريت صار فى إمكانها الآن أيضا أن تنسخط على هيئة أطفال الشوارع. وما بين جنازتين لضحيتين بريئتين تمضى الحياة الآن فى مصر، كل الجرائم تقيد كالعادة ضد مجهول، وعلى الرغم من أعمدة النور والإضاءة المنزلية والقنوات التى تعمل على مدى ال24 ساعة، فلقد غرق البلد بأكمله فى الظلام الدامس، بالضبط كحجرة تحضير الأرواح. آه يا ظلام العقل! أنت الوحيد الذى يبقى مسيطرا حتى فى عز النهار.